إبراهيم العمر.
تلك هي بعض صفحات من أول كتاب لي، كان بعنوان : لمسات من الحياة اليومية، يتألف من ٦٥٠ صفحة.
اوسترشوند ، مدينة في أقصى شمال السويد ، تبعد عن العاصمة ستوكهولم ٥٥٧ كلم ، وتبعد عن النروج ٧٧٦ كلم.
وتبعد عن مدينة بركة ٦٠ كلم ، حيث ترتاح هنا بحيرة كبيرة ، يتجلد سطحها في فصل الشتاء ، ويحصل احيانا ، في اوائل الصيف، ان يكون سطح الجليد في بعض الاماكن رقيقا، وينكسر لو مرت عليه سيارات، او أحيانا تحت اقدام المتزلجين ، ويحصل بعض حوادث الغرق، اذا لم تتم عمليات النجدة في وقت قصير، لان المياه الجليدية لا تعطي الكثير من الوقت.
اوسترشوند مدينة هادئة، ترتاح وسط غابات غير متناهية من السرو والشربين. تشرق الشمس هنا ستة أشهر متتالية ، ويخيم الظلام ستة أشهر متتالية.
ذهبت الى هناك مع عائلتي في العام ١٩٩٦، امضيت اجازة رائعة لمدة شهرين ، وكان ذلك أثناء الصيف، حيث لم نر خلالهما الليل.
انا لست في صدد أن أحكي عن الاوقات الخالدة، ولا عن الشعب الاسكندنافي وتاريخه المتميز، وحضارته التي تظهر لك وتدهشك أينما ذهبت ، انا هنا فقط لكي أحكي عن تجربة تافهة من الأحاسيس والمشاعر ، من الممكن ان تحدث لأي شخص، وفي أي مكان ...
لكنها ما زالت تطفو الى سطح الذاكرة ؛ وكأنها أسست لولادة رؤية فلسفية تنطبق على كافة العلاقات بين مختلف الكائنات.
الحياة البرية هنا ، رائعة ، وكيفما تجولت تصادف أنواع جميلة من الطيور، تتعامل معك بكل تودد وحنان ، لا تخافك ولا تتوقع منك أي تصرف عدائي ، وكأنك جزء من الطبيعة ، وتأخذ حيزا من جماليات المناظر ومن التناغم والانسجام مع سائر الموجودات.
كذلك يحصل لك أن ترى الكثير من الدببة ومن الثعالب والغزلان والذئاب وما الى الى ذلك.
كنت أستيقظ كل صباح لوحدي، وأجلس في المطبخ، بجانب نافذة تطل على جنات على مد النظر ، تأخذ الالباب، ولا تمل منها العيون....
الشمس هنا دافئة ولكنها ليس حادة كما هي في بلدان الشرق الاوسط...
وتعطي للطبيعة مختلف درجات الالوان، التي تسمح لها الظلال ان تتباين وتظهر في قمة الصفاء والنقاء ...
كان هناك مثبت على الجدار ، بجانب النافذة، من الجهة الخارجية، ما يشبه بيت صغير خشبي عتيق ومهجور، للعصافير . كان واضحا بأنه مجرد إضافة أهمل اصحاب البيت إزالتها…
كان يحدث كل فترة وفترة أن يحط عصفور ملون جميل على هذا البيت ، يرتاح لفترة ثواني ، لا يلبث بعدها أن يطير. كان يجول بنظره من حوله، بكل براءة وعفوية، لا يبدي ارتباكا من شيء، أكيد بأنه كان يراني، لكن لم يكن يبدي اي انتباه يشعرني بالخصوصية ...
كانت رائعة العفوية، وتلك اللوحة المكتملة باللون والصوت والحركة والصورة، كانت لا تدوم لأكثر من لحظات، لا تستمر ولا تتكرر، تجتمع فيها سائر مكونات الخلق والإبداع ، دون موعد، ودون سابق قرار، ودون أن يكون هناك حاجة للتواجد ، عبق القهوة السويدية القوي والمنعش يملؤ الرئتين، تغريدة عصفور غريب تترافق مع صفاء الجو ومع سكون الصباح لتتناغم مع تنهيدات القلب وتربت على أكتاف الوجدان، وتهرهر عن أشجارك الخريفية اوراقك الصفراء، وكأنك تنصهر في بوتقة اللحظة، وتغيب عن واقعك الأليم ، وتنسي بأنك لا تنتمي الى ذلك العالم، ولا الى تلك اللحظة. تنسى أين ولدت، وأين كنت، ولا يخطر على بالك ولو للحظة، ان تلك اللحظة التي تسكنك، سرعان ما ستنتهي، وستسحب من تحتك تلك الحصيرة الطائرة فوق غيوم الحقيقة...
كان العصفور سرعان ما يطير، ويترك خلفه طيفه لوقت طويل ، وربما كنت أراه في خيالي في كل مرة أجلس فيها خلف الشباك، وكأنه أصبح جزءا من المكان، وجزءا من اللوحة ومن عبير القهوة عند الصباح.
كنت غالبا ما أظن بأن العصفور لن يعود، ولا شيء هناك يربطه بهذا المكان، لكن كان يصدف وأن يحط من جديد ، بعد يوم او بعد عدة أيام، ربما يكون هو نفس الطير، وربما يكون طيرا مختلفا، ليس هناك مواعيد وأماكن محددة لتلك الطيور، وليس هناك ما يربطها بالوقت او المكان ... هكذا هي الطيور، وهكذا هي الصورة، وهكذا هي المشاعر والأحاسيس، ليس هناك ما هو أكيد في الوجدان، مجرد توقعات، تكون أحيانا قوية الى حد القناعة ، وأحيانا تكون واهية ، مجرد فكرة أو صورة عابرة في الخيال.
كان كل ذلك جميلا وينسجم مع قوانين الطبيعة ومع المشيئة الربانية التي يسير عليها الكون ، دون إرباك ودون تدخل من أحد لكي يحدث خللاً في ذلك الترابط والتكامل بين مركبات طبيعية مختلفة.
وحده الإنسان، سواء كان بحسن نية أو سوء نية، يزعج هذا التوافق والانسجام لكي تأخذ الطبيعة مسارها في النضوج والكمال، حتى ولو توفر حسن النية، فسوف يكون بسبب الجهل وعدم فهم أسرار الخالق فيما صنع ... فنحن عبثا لا يمكن لنا ان نرتقي الى ما هو أفضل من ترتيب الرب، وعبثا نتمكن من فهم بعض الأسرار ، فالله لم يمنحنا من العلم الا قليلا ....
تمنع الحكومة السويدية إطعام الطيور هنا، وذلك بحجة أننا نمنع التكامل الطبيعي للكائنات، فتلك الطيور تأكل فئران الحقول وتأكل الحشرات ، ولو نحن قدمنا لها البديل فان الفئران والحشرات سوف تزداد عن معدل تواجدها الطبيعي، وسوف تدخل الى البيوت وتعمل على إفساد حياة البشر، وتسهم في نشر الأمراض والأوبئة... فهناك عداوات طبيعية بين سائر المخلوقات للحفاظ على المستويات الضرورية للطبيعة دون ذيادة او نقصان، فقط بالقدر الذي يؤمِّن إستمرارية تماسك كافة المكونات حتى تستمر الفصول وتبقى الخصوبة وتستمر النوعية ... ونحافظ على النسخة الاصلية للخلق والابداع.
وضعت بعض فتات الخبز على البيت الخشبي الصغير ، وانتظرت أن يأتي العصفور. وفعلا، لم يطل كثيرا انتظاري، جاء العصفور، إقترب بحذر من الخبز، وكأنه استغرب تواجده في هذا المكان، وسرعان ما التقط بمنقاره الصغير، قطعة خبز صغيرة، وحط في مكان قريب، حيث مكث للحظات يلتهم قطعة الخبز. ما لبث أن عاد الى البيت الخشبي، وكما فعل في أول مرة، بحذر شديد ، جال بنظره بخوف وارتباك، ولكن كان من الواضح بأن شهيته للخبز غلبت خوفه وتردده، التقط بسرعة قطعة أخرى من الخبز ، وحطَّ في مكان قريب، وراح ينقر فيها بسرعة...
ليعود من جديد، ويصدف أحيانا ان يأتي طيرا آخرا ليشاركه الغنيمة، ولكنه كان يمنعه، ويدافع بشراسة عن رزقه، وكأنه يقول تلك قد أصبحت لي ومن ممتلكاتي ...
أصبحت أضع فتات الخبز في كل يوم عند الساعة العاشرة صباحا ، فأصبح الطائر يأتي في كل يوم عند الساعة العاشرة، ويوما بعد يوم، لاحظت أن خوفه وارتباكه بات يزول، وبات مطمئنا الى وضعه، وينقر كافة فتات الخبز وهو في مكانه. ويوما بعد يوم كنت أضع الخبز في مكان أقرب الى النافذة، وهو يقترب ولا يبالي، الى أن وضعته داخل المطبخ، حيث رأيته يتردد قليلا، ثم يدخل الى المطبخ طلبا للطعام ....
ماذا جرى يا ترى ؟ هل أنا أدخلت تعديلا في حياة هذا الطائر؟ وأصبح يفتش عن طعامه ليس في المكان الفطري الذي رسمه له الرب؟ وكم كان مقدّرا له أن يلتهم من الفئران الضارة والحشرات عوضا عن الطعام البديل الذي قدمته له! ترى ما هي فداحة الخلل الذي أحدثته في الطبيعة؟ هذا الطائر خُلِق لكي يصطاد ويتغذى من الطرائد. والصيد يحتاج الى تعب والى مطاردة والى قتال، حتى يفوز بطعامه. قد أكون قد أفسدت المسيرة الفطرية لهذا الطائر، وصار يستسهل طعامه الجاهز، ولن يقوى بعد الآن على الصيد والملاحقة والقتال.
توقفت عن وضع الخبز، جاء في الموعد، مكث لدقائق ثم طار. جاء في اليوم التالي في نفس الوقت ، كذلك الامر ، ما لبث أن طار ، جاء ليوم آخر، ثم توقف بعدها عن الحضور ....
قد أكون أحدثت تعديلا في تواقيته، وفي وجهاته الفطرية العبثية، أنا لم أعد أراه يأتي بعد ذلك اليوم ....
كنت دائما أتوقع حضوره، عندما كنت أضع له الخبز، كانت الحاجة هي التي تأتي به ، وكانت تلك الحاجة هي التي تمنحني الأمل بحضوره ... وهي التي تدعم توقعاتي، كنت أنتظره كل يوم، بنفس المكان ونفس الوقت، وأنا احتسي القهوة ، ويعتريني شيئا من البهجة والفرحة ... تلك الثقة بأنه سوف يأتي كانت تعطيني الكثير من القوة والمثابرة والأمل، حضوره كان بمثابة شكر واعتراف بالجميل ... وكان يطربني بتغريدة بين الحين والحين ...
كان يأتي بالفطرة، بين الحين والحين، ثم صار يأتي ليأكل كل يوم ....
ولما أصبح لا يجد الطعام، حتى بالفطرة لم يعد يأتي ...
لا أدري لماذا أصبحت تراودني ، بعد اللقاء الأخير، تلك الأفكار الحزينة، وكأني أشعر ببعض المقاربات على ما يحدث في الواقع الحالي ، ولا أدري كيف طفت تلك التراكمات المترسبة منذ زمن في عقلي الباطني، ورحت انسج من خيوطها ملابسا لقصص في خيال الحاضر.
كنت طوال تلك المدة، وأنا أفكر بالعصفور،
وأفكر بحجم الضرر الذي ألحقته به،
مع أن الناس تفكِّر بأن قلبي طيب،
وأنني قد تعاطفت مع العصفور،
لا أحد يعلم بأنني أنا من خلقت الحاجة عند العصفور،
وأنا من جعلته يأتي كل يوم حتى تنمو عنده الحاجة،
وحتى ينمو عنده الشعور بالرفاهية والدلال،
أنا من جعلته يتعّود على عذوبة المشاركة والفضفضة والأمان ...
أنا من جعلته يتذوق طعم الخبز ويستمتع بنكهة الحنان ...
وكان هناك بيننا هذا الحوار الصامت عن أسرار الوجود ،
وسرمدية لحظات السعادة
وعلمّته أن الأبدية ليست تاريخًا وليست مستقبلا،
الأبدية ليست سوى لحظة غيبوبة ، يرحل فيها الإنسان عن الوعي،
ترحل الغيبوبه ، وتبقى اللحظة ،
تستنسخ نفسها ، تتكرر وتدوم وتدوم وتدووووم ...
أنا الذي جعلته يشعر بالنقص والحرمان ،
وكان يعيش مثل باقي العصافير ، ويحسب أن السعادة بالطريقة التي كان فيها يعيش ،
علمني كيف احترم المسافة وكيف أقاوم الرغبة وكيف أمنح الشعور بالأمان،
علمني الصمت والسكون والتأمّل،
علمني القناعة وعلمني العطاء مهما كان ما أملكه قليلا...
وعلمني أن مجرَّد القليل من فتاة الخبز من الممكن أن يمنح السعادة والفرح
علمني الانتظار واحترام الوقت،
علمني الثقة والمشاركة وتقبّل الآخر،
علمني أن التلاقي لا يعني الحوار،
ولا يعني العتاب والشكوى والمجاملة والأناقة...
التلاقي هو أن تدع الأرواح هي التي تتحاور،
وتسمع الهمسات التي لم تقال،
وتقرأ الكلمات التي لم تكتب،
وتفهم الأسرار التي عجزت عن فهمها الأفكار...
علمني كيف أقاوم الجاذبية بيني وبين من أحب ...
علمني كيف أجعله يشعر بالامان ،
والمسافة التي يمكن ان أقترب منه،
والصوت الخافت الذي من الممكن أن أتحاور فيه معه،
وكيف أكتم أمامه الصرخة،
وأكتم الغضب والانفعال والحركة.
علمني أن المحبة لا تحتاج الى ذاكرة؛
لأنها موجودة دائما في كل لحظة،
لا تحتاج الى سكن
ولا تحتاج الى وطن
ولا الى جنسية
ولا الى جواز سفر،
عشت حياتي وأنا أبني سعادتي على تلبية احتياجات الغير،
أبدا لم أتواجه مع ذاتي،
أبدا لم اعترف حتى لنفسي عن احتياجاتي.
رحل العصفور الصغير دون أن يحمل معه شيئا من فتات الخبز...
ليت كان بامكاني أن أحكي معه،
ليت كان بامكاني أن أكتب له،
ليت كان بامكاني أن أعتذر منه،
لا أدري لماذا أتذكره بقوة في تلك الأيام،
وأحيانًا أشعر بوجهي وقد تلاشت تعابيره، وتقمّص وجهه.
لا أدري ما كانت هي احتياجاته،
لم يخبرني سوى عن احتياجاته الفطرية البسيطة لكي يعيش،
واضح بأن حاله كان أفضل من حالي،
واضح بأني لو أخبرته لكان قد رثى لحالي...
رغم واقعية الماضي،
لم يكن يساورني شك بأن العصفور سوف يعود دائما ،
سوف يعود بالفطرة ليأكل الخبز...
وعندما لم يجد الخبز،
كنت متأكدا بأنه سوف يعود على أمل أن يجده في الغد ....
او ربما سوف يعود لكي يراني،
ومن المكن أن يكون قد تعَّود على رؤيتي،
ولربما أكون قد أصبحت جزءا من احتياجاته،
فليس فقط بالخبز تعيش الكائنات.
هكذا تعلمت منه أن لا أفقد الأمل...
تعلمت منه الصبر والقناعة بالقليل ...
تعلمت منه ان العين تأكل قبل الفم..
والقلب يسمع قبل الأذنين ....
والحنان يغذِّي أكثر من الڤيتامينات.
وربما كان العصفور قد عاد بعد رحيلي،
حيث كنت قد زرعت له الأمل ...
وحيث تعّود ان نلتقي،
وقد يكون قد أنس عبق القهوة،
وقد يكون قد سحرته المودة والألفة.
لا أدري لماذا اليوم أشعر بالخوف الذي لم أشعر به من قبل،
لا أدري لماذا أشعر اليوم بان العصفور
كان من الممكن أن يرحل ولا يعود حين لم يعد يجد عندي احتياجاته.
وتبقي مشاعري حائرة،
وتبقي شكوكي ثائرة،
رغم أن المشاوير قد سلخت المكان،
والوقت قد نهش صفحات النسيان.
وأين أنا الآن من القطب الشمالي ؟!
لكن العصفور لم يزل حاضرا ببالي.