.......
*كيف يتصرف الحيوان*
*خارج قصص الأطفال؟*
ترجمة وعرض تحليل
*اديب قاسم*
▪️( الحيوانات وتصرفاتها ) Animals and their behaviour مؤلَّفٌ صدر عن متحف ( التاريخ الطبيعي ) البريطاني عام 1950 من تأليف موريس برتن Maurice Burton . يعرض المؤلف فيه بالمراقبة العلمية الدقيقة لخصائص الحيوان في سلوكياته ، وذلك بالاستجابة لغرائزه الفطرية ، وكذلك لردات الفعل الانعكاسية مما لا. صلة له بالذكاء وهو ما يشاهده جمهور السيرك .
وتكتشف في هذا الكتاب الذي اجتزأنا منه أهم ما يُميز الحيوان في علاقته بالإنسان ، أو بطبيعته وارتباطه بهذا العالم ... ضُروبًا من تصرف الحيوان مما لا يتسق مع كثير من قصص الأطفال التي تُروى على ألسنة الحيوانات ، ولا يظهر فيه الحيوان على حقيقته أو طبيعته . غير أن. لهذه القصص ما يبررها في مستوياتها الذهنية التي يتوجه بها غالبا كتاب أدب الأطفال إلى النشئ لاستخلاص عِبرة أو درس أو غاية يجري استهدافها في ظرف من ظروف الحياة ... وليست في واقع الأمر __ مما يتصف به الحيوان .
يقول مؤلف الكتاب تحت عنوان « بعض الأخطاء الشائعة » في الفصل الثاني من الكتاب :
« يتحدث بعض الناس أو يكتبون عن طبائع وسلوك الحيوانات كما لو أنها تفكر وتعمل كما يصنع الإنسان . وعندما كنا صغارا ، كنا نقرأ أو كانت تُروى لنا قصص عن الأرانب ، وحيوانات الخُلد ، والفئران ، وغيرها من الحيوانات ... تحكي لنا عن مغامراتها ومحادثاتها .. هذه الحكايات كانت حقيقية بالنسبة لنا في تلك السن المبكرة ، ولم تكن تثير الغرابة في نفوسنا أو الضحك من أن الحيوانات ترتدي الملابس وتتكلم وتتصرف شأنها شأن الإنسان . وفي الواقع فإن تلك هي الطريقة الوحيدة التي يمكن أن تُروى بها تلك الحكايات للطفل » .
غير أن من المحزن ، أن بعض الناس لا ينضجون أو هم إن نضجوا أي كبروا في السن ، يستمرون في التفكير بأن الحيوانات تتصرف كالبشر ... وفيما لاشيء يمكن أن يكون أبلغ من الحقيقة . فلطالما سمعنا البعض يقول عن كلبه : « أنظر إليه فحسب ، إنني جِدُّ واثق من أنه يفهم كل كلمة أقولها له » ... أما إن أردنا أن نستجلي الحقيقة حول هذا الظن من أن للكلب قدرة على فهم ما يقال له ، فدعونا نتحول للحظة إلى كلب السيرك المتكلم الشهير ( The famous talking dog of the circus ) حيث يشرع المدرب بتوجيه شوال للكلب ، فنشاهد هذا الكلب يلتقط بطاقات مكتوب على كل واحدة منها حرف من حروف الهجاء ويلقي بها بتراص على الأرض ليقدم لنا الجواب . فبالنسبة لهؤولاء الذين ينظرون إلى هذا المشهد كما لو كان معجزة ، لاسيما وأن المدرب لم يحرك ساكنا بل كان يقف بثبات فلم يقدم للكلب أبة مساعدة .. فإن الحقيقة هي أن المدرب قد قام بحركات خفية كإشارات للكلب تخبره ماذا عليه أن يفعل ( وهي عملية كانت قد استغرقت تدريبا طويلا ) وربما كانت حركة خفيفة من إصبعه الصغيرة ، وقد شاهدها الكلب فاستجاب وفقا لذلك ... وذلك لما كانت أحاسيس الكلب كسائر الحيوانات مرهفة في الملاحظة أكثر مما هي لنا معشر البشر ، حتى وإن كان من طبيعة الكلب أنه قصير النظر وهو ما أثبتته الدراسات العلمية ، فإن نظره يكون حادا إلى حد كبير بالنسبة للحركات الخفيفة الصغيرة داخل المساحات الضيقة ، أي حين يكون على مقربة دانية أو على بُعد يسير !
وعلى النحو التالي تُصنع هذه الإشارات : في عرين السيرك يقف المدرب ، وعلى بعد قصير من مكانه يقف الكلب ... وغير بعيد عدد من البطاقات كل واحدة تحمل حرفا من حروف الهجاء ... يسأل المدرب الكلب : « أتُحب البسكويت؟ » الكلب يشاهد الحركة السريعة الخفيفة لإصبع المدرب الصغيرة فيلتقط البطاقة التي تحمل حرف (ن) ويضعها عند قدمَي المدرب ، ثم يحرك المدرب معصمه حركة خفيفة فيجيء الكلب بالبطاقة المكتوب عليها حرف (ع) .. ثم الحرف (م) بعد أن يصدر المدرب حركة خفيفة سريعة من أصبعه الإبهام ... وهكذا يبدو لك أن الكلب يتهجأ الحروف وقد اكتملت الكلمة (نعم) جوابا لسؤال المدرب : « أتحب البسكويت؟ » , وهذه الحركات مما لا يلتقطه بدقة النظارة من جمهور السيرك أو إن شاهدوها فلا يفكرون بها إذ يحسبونها حركات عادية تصدر عن كل إنسان حين يقف بثبات وجمود .
وفي هذه الحكاية عن الكلب المتكلم الشهير الذي تلقاه في السيرك ، نجد أن للكلب قدرة على إبصار الحركات بل الهزات الصغيرة ، فيستجيب لها _ بحسب ما تلَقَّاه من تدريب _ برَدَّات فعل انعكاسية REFLEXES , وما من شأن لهذا التصرف بالذكاء intelligence على أن الكلب بطبيعته لا يتمتع بقوة نظر جيدة ، وعادة فإن الكلاب مصابة بالعمى اللوني Colour blind لا ترى الأشياء إلا باللون الأبيض أو الأسود أو الرمـادي ، وليست لديها قوة نظر القطط وإن كانت هذه لا تُبصر إن أرادت الصيد ، غير الشيء الذي يتحرك .
*****
غير هذا ، إذا نظرنا إلى الحيوانات في مرحلة الطفولة ، نجد أن الحيوانات ترعى صغارها منذ لحظة خروجها إلى الحياة بنوع من التربية السلوكية الخاصة بطبيعتها ... وكذلك من أجل أن تكفل لها الحماية في حفظ نوعها الحيواني ... وهو شأن الإنسان في اضطلاعه بمسؤولياته كاملة تجاه أطفاله !.. هكذا _ مثلا _ نجد الحيوانات تأخذ على عاتقها عِظَم هذه المسؤولية بما يجسد عواطفها نحو صغارها ونلاحظ ذلك عند الإناث من الحيوانات ،وهي تقوم بها عن طيب نفس وبمحض إرادتها الحرة حيث نراها تتبنى الصغار حتى وإن كانوا من نسل حيوانات أخرى من نفس النوع ... والمثل المعروف عن هذه الحالة ، عند الدجاجة التي تمارس دور الأم الحاضنة foster mother أي الأم بالتبني أو الإرضاع حين تتبنى فرخا لطائر آخر مثل بطة صغيرة ، ويمكن مقارنتها بحالات كثيرة عند غيرها من الحيوانات ... قرأنا نحن قصة « البُطَيطة القبيحة » The little ugly duck أو ( Duckling ) للكاتب الدانماركي الشهير هانز كريستيان أندرسن أشهر كُتَّاب أدب الأطفال في العالم وقد عمد إلى تصوير هذا المشهد .
ثم أنظر في محور آخر من الكتاب ، إلى الدجاجة إن هي أحست بظل صقر يظهر على الأرض ، فإنها تنادي على صغارها باهتياج شديد ليُسرعوا إلى الاحتماء بالاختباء تحت جسدها ... وهي تفعل الشيء نفسه حيال العواصف الرعدية!.. ويرى موريس برتن أن الرعاية والتفاني في التضحية التي تبديها الأم من الحيوانات تجاه صغارها يوازي الحالة نفسها لدى الأم من بني الإنسان ، فهي ستُحرم نفسها من كل شيء في سبيل سلامة صغارها بعدم تعرضهم لأي مكروه ، من الطعام أو الراحة أو سلامة حياتها ، ومهما عظمت التضحية ، ومهما كانت قوة العدو في عراكها معه لتحمي صغارها ، وكما لو أنها تعرف أن المستقبل هو للصغار وأن الطفولة هي حلقات في سلسلة غير مرئية للحياة ، وينبغي أن تصان ما لم تتحطم هذه السلسلة ، بمعنى : حفظ النوع .
وعلى هذا الأساس ( خصائص الحيوان وتصرفاته ) يمكن إضافة شيء غير قليل من المعرفة التي ترتكز على الحقيقة التي لا بد للطفل حين يكبر أن يتوقف عندها .. على أن كاتب قصص الحيوان قد يفيد كثيرا من معرفته لتلك الخصائص وإلى حد بعيد قيد إدراكه لهذه الحقيقة . وفي هذا يقول موريس برتن مؤلف الكتاب :
جميعنا يحب مراقبة الحيوانات ، سواء كانت في حديقة الحيوان أو كنا نتخذها كحيوانات مدللة ، أو كانت تعيش في البراري .... فنحب أن نشاهد ما الذي تفعل . وفي البدء نراقبها بحب الاستطلاع كونها شيء مختلف ولأنها تتصرف بغرابة ، وفي الحال نسأل أنفسنا : لماذا تتصرف على هذا النحو .... لماذا تفعل هذه الأشياء . وفي بعض الأحيان قد نكتشف الجواب ، وأحيانا أخرى نقف عاجزين ، ونادرا جدا ما نجد جوابا لتلك الأسئلة . وربما كان علينا أن نتذكر أن العالم شديد الاختلاف بالنسبة إلى الحيوان ، عن نظرة الإنسان إلى هذا العالم ... »
ويمضي برتن ليصور هذا الاختلاف فيضرب لنا أمثلة تبين الفروق بين الإنسان والحيوان ، حيث يعتمد الإنسان على عينيه أكثر من اعتماده على أذنيه وأعظم مما يعتمد على أنفه ، وبمعنى آخر فهو يعتمد على رؤيته أكثر منه الإصغاء أو الشم . فبينما يبدو العالم للإنسان أكثر من طريق الرؤية ، فإنه بالنسبة للكلب يكون عالَما من الأشياء عن طريق قابلية الشم أو السمع ، وأما القطط فإن حاستَي الإصغاء والرؤية أهم عندها من استخدامها لحاسة الشم .
وهذا يقودنا إلى بداية الاكتشاف من أن الكلب الذي يعتمد حاسة الشم لديه أنف رطب ، وأن القط الذي يعتمد حاسة الرؤية لديه أنف جاف . فمن الجلي أن ثمة علاقة بين المشاهدة وجفاف الأنف وما يحتاجه منه الحيوان لاستعمال حاسة الشم .
لتعميق دراسته للحيوان في هذا الجانب من االسلوك ، يعرض لنا المؤلف هذه التجربة فيقول :
« ثمة في الحقل توجد خيول وأبقار ، فإذا حاولنا أن نسترق المشي إلى أحد الخيول نجده يبدأ فيحرك أذنيه ليصيخ السمع ، وعلى نحو آخر نجد البقرة لا تُرعش ( أو تشد ) أذُنيها ولكنها ترفع رأسها موجهة أنفها للرياح ، فالخيل يشد انتباهه بدء ما نقترب منه ، من خلال أذنيه ...والبقرة من خلال الأنف .
وإذا رجعنا إلى موضوعنا عن القطط والكلب ، سوف نلاحظ أشياء أخرى عن خصائصهما حيث أن للقط مجَسَّات طويلة وثمة الكثير منها ، وهذه المجسات ( أو الشوارب ) تكون ضرورية لحيوان إعتاد بدرجة رئيسية الاصطياد في الليل ليتلمس طريقه في الظلام . وأكثر من ذلك نلاحظ أمرا غريبا بالنسبة لبؤبؤ عين القط حيث نجده في الضوء الشديد التوهج يضيق ... وفي الضوء الخافت يغدو مستديرا ويتسع في الانفتاح . وأما عينا الكلب فليست لهما تلك الميزات في القدرة على تعديل رؤيته.
******
« أما لماذا تُغنٌّي الطيور؟ » فيمضي المؤلف بحثا عن إجابات دقيقة من خلال عدد من الاختبارات أو عن طريق المراقبة أو الملاحظة في جو طبيعي ، وكذلك الاستقراء لبعض الأشكال من الحدس الصرف .... ويرى بالنتيجة من خلال تجربة أجراها أحد العلماء حيث جمع عددا من الطيور من نفس الفصيلة ، و ضع بعضها في أقفاص وجعلها تتعرض لضوء النهار حتى يتلاشى في جو طبيعي ، وأخرى تركها في أقفاص عرضةً للضوء بصورة مستديمة ، فوجد أن الطيور كلما بقيت في ضوء مسترسل تزداد عندها رغبة التناسل وبالتالي تكثر من الغناء .. وقلَّ حظ الأخرى .
إذن ، يربط العالِم وكذلك المؤلف بين ممارسة الطيور للتزاوج وبين حاجتها في هذا الظرف للغناء ... مثلما أنها تحب الغناء كلما ازدادت مساحة الضوء .. وعلى هذا نجد الطيور تغني كثيرا في الصيف بالأخص في الربيع الذي يطول فيه النهار ، مثلما تجري فيه أعراس الطيور .
وهذا أقرب إلى ما يعتقد به الشعراء عادة من أن الطيور تستمتع بالغناء ، أي أنها تجد فيه متعة مما يدل على حياة سعيدة ! .. وفي هذا يقول المؤلف موريس برتن إن للشعراء وهُم غير العلماء ، موهبة أو مقدرة خاصة على الاستشفاف لكُنْهِ الغيب ، أو الشيء الغامض ، عن طريق حاسة الشعور العميق أي « حدْس » أو بديهة كثيرا ما تصدق أو تقوده إلى الحقيقة . هكذا رأى الكاتب في رد الشاعر على سؤال : « لماذا تُغَنِّي الطيور؟ » : The poet would probably reply that it is a sign of happiness . Now a poet is not a scientist , yet the poet has the happy knack often of getting at the truth by sheer intuition » .
وهكذا يجري دائمًا ترَقُّب كل ما يصدر عن الشاعر من توجُّسه للشيء .... أي دائما ثمة شيء وراء كلمات شعره يشير إلى الحقيقة .
ويمضي المؤلف ليَضرِبَ مثلا آخر في الديك عند مغازلته للدجاجة ، وبضوء ما انتهى إليه العلماء بفعل المراقبة المستمرة لسلوك الحيوان ... ذلك أن الديك اعتاد أن يجتذب انتباه الدجاجة ، وهو لذلك يتخذ مظهر الأنتيكة antic فيقوم بدور المهرج إذ يُحَلِّق قريبا من الأرض ، وقد يطير إلى فرع في الشجرة ، ثم يعود فيهبط وهو يطبل بجناحيه .... ( ويتشقلب ) أي ينقلب على ظهره حين يصل إلى الأرض في نوع من اللعب .. وغالبا ما يطلق صياحه ( غناءً ) ليلفت نظر دجاجته أو دجاجاته إلى أهميته لها أو عظَمَته ... غير هذا فالديك يغني ليبعث رسالة إلى الديكة الأخرى بأنه موجود هناك ، ومن الخير لهم أن يمضوا بعيدا للبحث عن مكان آخر لهم وإلا سوف تحدث مشاكل ، بكلمات أخرى : إنه قد اتخذ لنفسه قطعة أرض كملكية خاصة للتعشيش .. ليقيم عليها بيته أي مقر حياته __ ولا يريد دُخَلاء .. وعلى هذا فهو ينذرهم بتوجيه التحذير .
على أن الطيور الصغيرة _ يقول المؤلف _ وحدها هي التي تُغني ، وغالبا الذكور كالبلبل . وجميع الطيور تطلق صوتا بشكل أو بآخر من حنجرتها لكنها لا تُغَنِّي ، وهذه هي الطيور ذات الحجم الكبير ... أما الصغيرة فتُغنِّي لتُلفتَ نظرَ أسرابها أو أليفها حتى يهتدي إلى مكانها وهي عندما تكون في دغل كثيف أو وسط غابة فتُرسلُ غِناءها صدَّاحا وهو ما يأسر السامع ، وهذا الذي حدث مع الشاعر في تصوره أن الطيور تغني لأنها تستمتع وتجد فيه ما يسعدها .
*****
والكتاب بعد كل شيء ، غني بدقائق المعلومات حول غرائب العادات في سلوك الحيوان وتصرفه على نحو يثير دهشة المُشاهد ... ويقدم التبريرات الحقيقية بصورة علمية حول طبيعة تلك التصرفات لدى كثير من الحيوانات ... وهو ما قد يفيد الأديب وخاصة كاتب أدب الأطفال .. الأدب الذي يُجري حكاياته على لسان الحيوان ، ما يجيز له أن يستخدمها بمعنى أدق وأوفر للحقيقة وكانَ يميل بها إلى الرمز لنماذج بشرية مما نلقاه في الحياة .
انتهى
🔳🔳