الأحد، 22 يناير 2023

قراءة نقدية بقلم الأستاذ جوهر الدواس في رواية مسير و نثار بقلم حاتم بوبكر

 قراءة نقدية في رواية "مسير  و نثار " لصاحبها حاتم بوبكر

قراءة بقلم الأستاذ: جوهر الدواس.

ُ

حمام سوسة في 14 جانفي 2023

 إن ما يشد الا نتباه منذ الصفحات الأولى لرواية "مسير ونُثاٌر" هو حضور  الرمز بصفة مكثفة على نحو يرهق التفكير والتحليل ويجعل القراءة أقرب ما يكون إلى محاولة للتعرف على نسق فلسفي مفاهيمه مستغلقة وأفكاره متماسكة بصرامة كنصل حاد يقتضي التعامل معه بحس مرهف

وعقل منفتح يدفعك لتجاوز ما يبدو من انبساط السطح ونوره لسبر أغوار الأعماق الملغَزَ ة من المعاني. ولعل في مشقة التفكير وكده، والسعي لفك شفرات الترميز ما يجعل القارئ ملتذا مستمتعا  بما قد يجود به النص من محاولة لكشف الإنسان في انكساراته وانتصاراته، وفي آلمه وآماله، وفي القيود المكبلة لروحه وجسمه وسعيه الدؤوب للانعتاق والتحرر كما أشار إلى ذلك الفيلسوف الوجودي سارتر حين صرح بأ ن " الإنسان ليس ما كان بل ما سيكون " إعلانا عن انفتاح لا محدود لإمكانات وجوده الفردي. فكل إنسان أصيل يظل "مشرو َع وجود " مطالب بنحت كيانه على النحو الذي 

يرتضيه ويشعر فيه بتحقق حريته وإثبات وعيه.

إن نص الرواية كما المفازة لا يفوز بفهمه وكشف بعض تركيبه إلا من ذلّل بما خط يراعه رموزها واجتهد في التفطن لمقاصد كاتبها وقد أحكم نَظم دروبها وثناياها وكثف من عرجاتها عُمق التفكير في مصير الإنسان ومآلات وجوده. 

 و تجدر الملاحظة أن كل قراءة نقدية وكل قول على مقول الرواية لا يمكن أن يُعوّض متعة اكتشافها والإرتواء من نبعها الغزير، والتفكير في مقاصدها وأبعادها الوجودية والفلسفية. لكن يجب التنبيه إلى أن هذا النص نَص شاق عصي على الفهم البسيط والسطحي بما أنه يقتضي التروي والتحلي بالصبر لإدراك ما يكتنفه من رموز وإشارات وكأن تذوق الرواية بلغة المتصوفة " تجربة تُعاش و لا تُوصف " فهي رواية فريدة ترجع فرادتها لفرادة لغتها و ما تحيل إليه من رموز كما ترجع لفرادة أحداثها وما تُحيل إليه من أبعاد. 

 وأول ما يمكن إيراده من ملاحظات بعد قراءة الرواية والتمعن فيما تحمله من دلالات هو تلازم بعدين حاضرين بإلحاح ووضوح في كامل صفحاتها من ألفها إلى يائها وأقصد البعد الشعري والبعد الفلسفي. ذلك أن البعد الشعري يتجلى في الجرس الموسيقي الذي اصطبغت به الكلمات والعبارات والصور الخيالية المساوقة لما ورد في جل صفحاتها. وهذا ما يأخذك بعيدا للإنصات إلى لغة نبعها غزير وماء حروفها صاف رقراق هي صدى للغة الأجداد حينما كان لهم أمجاٌد ووقع في الوجود. أما البعد الفلسفي فيتجلى من خلال عمق الرموز وكثافة دلالتها والخيط الناظم بين الأفكار والأحداث وكأنك أمام نسق فلسفي متناغم ومتماسك لا يبوح بأسراره إلا بعد جهد في التأويل والتأمل لاسيما وأنها تتعلق بالإنسان أو بفالح بما هو  الشخصية الرئيسية التي تَشد مدار الرواية ومركزها، التي تشعّ منها وإليها كل الأفكار والأحداث...فالح هو الإنسان في علاقته بذاته وبغيره وبالعالم وفي انشداده إلى قيم مثلى تقود فكره وتحرك فعله.

 بيّن إذن أن روايةَ " مسير ونُثار" كُتبت بنَفَس وجداني ووجودي وبروح الشاعر المتفلسف أو الفيلسوف الشاعر على حد عبارة فالح نفسه "إنها أنين العقل وهدير القلب ". ولو حاولنا بد ًءإثارة بعض التساؤلات بخصوص العنوان وما يقبله من تأويلات فلنا أن نتساءل : هل المسير ضرورة ورهان أم هو من قبيل النافلة والصدفة ؟ هل هو مسير شاق وعسير أم هو على النقيض من ذلك سهل ويسير ؟ هل هو مسير الأقدام أم هو مسير الإقدام على فعل استقر في النفس ليشحذ القول والفكر ويهز الجسد ويدفعه للحركة. لْم ولماذا لم يقتصر العنوان على كلمة واحدة هي "مسير" َ؟ أية دلالة إذن لربط المسير بالنُثار ؟ هل يفيد ذلك أن المسير طويل المدى كثير المخاطر يستوجب مكابدة واصطبارا على ما قد يلاقيه المرء في الطريق من عوائق وأشواك؟  يبدو أن الأجوبة عن هذه الأسئلة في تقديري لا تتجلى بوضوح، وبوجه من المفارقة، إلا ضمن الصفحات الأخيرة من الرواية وكأن الهدف لا يبرز للعيان إلا بعد السير في دروب عذراء دون أفكار مسبقة أو وجهة معينة وكلما استمر المسير تبدّى . 

ولكن قبل النظر في الخواتم والنهايات يجدر بنا أن النظر في شخصيات الرواية وما تحمله من انهمامات وانشغالات  وما يتخلل أقوالها من إشارات ورموز. وفي مقدمة هذه الشخصيات نجد فالح باعتباره الشخصية الرئيسية التي تدور في فلكها بقية الشخصيات ومن أهمها شخصية آمال حبيبَتُهُ في البداية وزوجته لاحقا وأم ابنه ياسين وشخصية جدته فاطمة. 

 يُذكرنا اسم فالح بالفالح وبالفالحة، فلاحة الأرض وفلاحة الذهن ... إنه على حد عبارة الراوي إنسان" ملّ النزول، تاقَ إلى النجوم ". ونحن نُدرك أهم ملامحه وسماته من خلال حواراته مع آمال فهو شخص يعشق الوحدة والعزلة، فقير، متجذر بفكره وروحه في الأرض إلى حد التقديس والهُيام.

شاعر يلفه الحزن ولا يُفارقه السواد. يتحدث فالح في أحد حواراته مع آمال عن عزلته فيقول " العزلة عزلة عن فكر الناس وليس عن الناس... إني أبني داخلي جدارات  

الألم وأزوقها كي تتفتح مشاعري وتتجلى الحقيقةُ وتنبلج رويدا رويدا صباحات ُمشرقةٌ زمن الوهم" ويضيف "

عزلتي عزلة فكر يبتعد عن فيض الصخب، عن الأصوا ت العالية وضجيج المصادح". َوحين سألته آمال: أتكتب شعرا ؟ أجاب " أكتب هما وبعضا من الخيال علني أترك نعَقات العزف وأصوات الوحدة، أسراَب الأحزان وفتَحات الآلام الساكنة على وجه الأرض". 

ونحن ندرك بصورة أوضح طبيعة حزن فالح ومكمن السواد الجاثم على صدره والمعشش في روحه المتعبة والغايةَ من وراء هذا الشعور الحاضر على الدوام حين تحدث عن الوشم. فالوشم حاضر بكثافة في كل فصول الرواية. يقول فالح متحدثا عن الوشم " أخاف إن نزعتُه أن أنغرس في الطيش أعودُ إلى صمت القبور، إلى السير في الزحام دون عنوان، إلى الركض بين الحشود دون هموم والإستغراق في الضحك بين الوفود وهجر السؤال والعودة إلى المغارة حيث الكنوز والرقص والغناء". وعليه فإن شخصية فالح خارجة عن السائد والمألوف مما اعتاده عامة بني قومه  لذلك آثر العزلة والوحدة. وفي نفس هذا المقام الذي يعبر فيه فالح عن أسباب عزلته يُجيب حافظ المكتبة حين تساءل مستغربا: " ما بالك تركب أرجوحة القوة والخيال وتثب فوق الُحفر... حذاري قد تتعثر وتسقط وتسيل دماؤك".رد فالح قائال " أبحث عن ممر يقيني الإزدحام، يحميني من السقوط في مستنقعاتهم ". وحين يشخص واقع زماننا مجيبا آمال يقول: " إننا في زمن الركل والقضم...في زمن ينهش بعضنا بعضا، العاذل ينهش المحب والعاقل ينهش المجنون والرطب ينهش اليابس" ويقول في نفس هذا السياق المعبر عن مأساوية الوجود " نحن موت يُعاني الموت... َهرج في كل مكان ومَرج وهرج اختلت له الأحوال" في هذا الزمن الذي يلفّه السواد الحالك ويجثو عليه الوهم المميت ينشد فالح إلى آمال، وقد تعارفا بين أروقة الكلية التي يدرسان بها، فَلإسما وقع يُثير الأمل رغم ْالألم ويبعث في الروح الحياة بعد بداية الاحتضار. يصف فالح آمال قائلا " عرفتها أنثى جليلةً يغازلها الحبور   كسهل خَضير، يُقَبله الراعي ويغنّيه الشاعر، هي شبَهُ البلبل الشادي والأفق الطليق. فتاة ضحوكة جناحاها يخفقان كطائر اللقلق أو كرموز زهو عجيب، هي بسمة تأتي في الصباح توقد روحي وتهز إحساسي وتمر....


على أن التقاء فالح بآمال رغم عنادها وما تبديه من الكبرياء والتعالي تجاه فالح وهو الذي يعترف لها قائلا :" أنا الفقير أحب جمالك ولكنني أعرف حكمة الحدود، َأثمر بالنهاية ولادة ياسين بعد الزواج. ياسين رمز المستقبل الآتي، كما هي الجدة فاطمة رمز الحكمة الغابرة والضاربة في القدم والتي تركت أثرا بارزا في فكر فالح وكانت علامة مضيئة تُنير بعضا من سواد طريقه، أو لعلها تزيده حلكة وشقاء. سوا ٌد يتجاوز ذاته ليتعلق بالأمة برمتها كما أشارت إلى ذلك آمال بقولها منذ بداية معرفتها لفالح وتواتر اللقاءات بينهما " فالح يحمل حزن الأمة ! يحمل حزن أرض ! ". إن ولادة ياسين كانت إعلانا عن تجلي خط المسير كما يتضح ذلك من خلال كثافة الحديث عن الوشم من طرف فالح بدءا ومن طرف ياسين لاحقا حين يقول وهو يسير على نهج.أبيه وأجداده " الوشم فائض عنفوان يسقي الأجنة، نموت ولا يموت، ينتصب في الأجساد روحا يسقي الأرض ويُنبت الزيتون"  ويُضيف " الوشم سيُعيد رسم الرسم والأرُض ستُرتّب فواتحها وخواتمها". إن الوشم أمارة كل من اختار المسير  ولم يُبالي بالنثار. يُعلن فالح " نحن تفاصيل مسير يسير، يخترق الحدود والظلمة، نور ينفذُ من كل الزوايا يحرق الأكاذيب والوصايا ". وبهذا المعنى ندرك الحديث عن عروس المدائن مدينة القدس بما هي الأمل المنشود وما ينبعث في النفوس من الشعور بالضيم في الأعماق، والحديث عن هوية يتم محوها وعن خيبات المساعي والرعب الساكن من السير نحو الأمام.

إن المسير أصبح ُمتَجاوزا لزمن الجدة فاطمة وزمن فالح وآمال وعصر ياسين فالحياة كما بينت آمال تستمر بجذور  المسير والمحبة والسلام فتُذيب السحاب ". إن المسير وحدةُ أمة تستمر تجمع القدامى والمعاصرين وترسم درب أ مة بَدت ملامح هويتها في التآكل والإضمحلال. يقول ياسين معبرا عن ضرورة الحفاظ على الهوية لإنارة الدرب والدفاع عن الأرض قبل العرض: "نحتاج إلى الهوية لنُبقي شعلة الضمير نهرا عذبا يترشف قطر الندى ، يقتفي أثر النجوم ويخيم في الأرض. وإن ياسين ابن فالح رجل المستقبل ليس وحيدا في تطلعاته وطموحاته بل يُحيط به جمٌع الأرض من الأصدقاء كشهد وفرحة وعزة وابراهيم ورنا وأسيل وهم عنوان الرجاء وعلامةُ مواصلة المشوار وقد اتفقوا على عدم الحياد والانحراف عن خط المسير ورسم الوشم وترسيخ الهوية. وإننا ندرك بوضوح هذا الموقف الجليل فيما ورد ضمن الصفحات الأخيرة من الرواية حينصاح رفاق ياسين بصوت واحد : "هويتنا تفقأ عيون عالمنا الكفيف وسيرنا ضجيج لآذانهم. إننا مستمرون...مستمرون...نترقب صلاحا منّا أو فلاح الأمة أو ذات الهمّة... ستفيض، ستفيض سيدة الأرض وسينبت نوى حب الزيتون فيُعلن عن ميلاد أغنية الحياة وشقائق النُعمان وعُرس الرمان وتَعانُق الحبِّ والحبِّ، المسير والعود . 

خلاصة القول وصفوته أن الكاتب َجمع بين لطف العبارة وعمق المقصد والإشارة فمسيره يتأرجح بين إثبات الوجود وإشراقة الأمل وبين السقوط في العدم وظلمة الألم. ونُثار مسيره هوم تحرر الإنسان الأصيل وتحرير أرضه المقدسة علامة الفعل الكادح والمثابر لتحقيق الحلم ...حلم تحرر الإنسان الأصيل وتحرير أرضه المقدسة المستباحة...وفي ذلك َحسبُهُ.

 جوهر الدواس


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

من تلقاء قلبي بقلم أحمد عبد الحي

،****. من تلقاء قلبي **** قالوا سفهت وكيف تطلب ودها                         من قبل أن يقضي الكتاب آواني من قبل أن تعلم لماذا فتها           ...