أم محفوظ بهلول البربري 2
رواية / رضا الحسيني
شاءت أقدار الحياة ألا يبقى بيت أسرة عزيزة المطل على نهر النيل ، سلبته منهم الدولة لتوسيع الكورنيش كما فعلت مع جيرانهم ، ومنحتهم بدلا منه مالا ليشتري أباها أرضا بمكان آخر بعيدا عن النهر بنى عليها بيتا جديدا ، خسرت عزيزة وقتها المكان الذي زرعت فيه كل ذكريات طفولتها وصباها في نفس الوقت الذي خسرت فيه زوجها الأول
في العام السابع لزواج عزيزة دخلت ابنتها الكبرى المدرسة ، كان ابتهاج عزيزة لا يضاهيه شيء بالحياة ، أخيرا ترى عيونها أول أولادها بالزي المدرسي ، وقفت مبتهجة تنظر إلى ابنتها مَجيدة وهي تحضر أول طابور صباح ، كان النور يملأ روح عزيزة وهي بهذه الحال ، نور لا يحظى به بيتها كأغلب البيوت ، فالسد العالي لم يكن قد ولد بعد حتى هذه اللحظة الفارقة بحياتها
تنقلت عزيزة حتى العام الثاني و الأربعين من عمرها في عدة بيوت ليس فيها لا ماء ولا كهرباء ولا شيء يعمل باستخدام الزر ، تستخدم فقط في بيتها اللمبة والوابور الجاز ، كانت عزيزة تشعر دائما أن بيتها مسكونا ولا تشعر بالأمان والراحة ، وكانت ابنتها مجيدة تقوي فيها هذا الإحساس
كان هذا العام هو عام النكسة ، عام 1967 ، وكان ابنها الأكبر وحيد بالجيش ولا تعلم عنه شيئا ، فلا مصدر تأتي عن طريقه أخبار الجنود بالجبهة بعد الهزيمة القاسية ، وقتها شعر الجميع بالموت والانكسار ، كانت رائحة الموت تفوح من كل البيوت والشوارع والقرى والمدن ، في كل بيت أو أسرة أو عائلة يوجد شهيد ، يوجد حزن ، وكيف لايحزن الجميع وقد فقدوا الجدار الذي كانوا يعتقدون يقينا أنه يحميهم من كل شيء ، كانت صرخات عزيزة تهز أرجاء الحي ، لاتعرف شيئا عن ابنها الغالي يتيم الأب ، حتى جاءها من بيت أمها النبأ السار ، عاد وحيد سالما بعد عدة شهور ، مثلما عادت قلة من الجنود ممن نجوا في هذه الحرب التي استمرت ستة أيام فقط وانتهت بهزيمة وانسحاب وخزلان و احتل العدو الصهيوني سيناء بالكامل
كبرت أسرة عزيزة وأصبح لديها خمسة من الأبناء وهي في مطلع عامها الثالث والأربعين ، ابتهجت الأم لأن مَجيدة ابنتها الكبرى من زوجها الأسطى زغلول قد أنهت تعليمها الفني بالحصول على دبلوم التجارة ، والتحقت بعمل تكتسب منه بعض الجنيهات ، فانتقلت الأسرة لأول بيت فيه الماء والكهرباء بعد الكثير من سنوات العيش بأقل الإمكانات ، أخيرا عاشت عزيزة وأسرتها في بيت يعرف لغة الزِّر
كان البيت الجديد من دور واحد يتكون من شقتين فقط ، وكانت شقة عزيزة كبيرة ذات ثلاث غرف بحديقتين ، إحداهما أمامية والأخرى خلفية وإن كانتا صغيرتان ، والبيت على شارع رئيسي ويطل على مزارع المانجو وهو حي راقي بخلاف البيوت السابقة
ومن طرائف عزيزة في البيوت التي سكنتها أنها ذات مرة عند خروج زوجها للعمل صباحا أخبرته بالبيت الذي ترتاح للانتقال إليه بجوار بيت أختها الأصغر بهذه المنطقة الأكثر هدوءا ورُقيا ، وبالفعل انتقلت إليه بعد انصرافه ، وعندما قامت بوضع أثاثها فيه لم تجد مكانا لدولابها الكبير ، فقررت قُرب المغارب العودة مرة أخرى لنفس البيت الذي كانت فيه صباحا ، وعندما عاد زوجها الأسطى زغلول من عمله في المساء واتجه للبيت الجديد لم يجد عزيزة والأولاد في البيت الجديد ، وبدأ رحلة البحث عنهم
غدا نستكمل رحلة عزيزة أم محفوظ بهلول البربري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق