الخميس، 27 مارس 2025

مظاهرُ الحياةِ بقلمِ فؤاد زاديكى

مظاهرُ الحياةِ العائليةِ بينَ الماضي و الحاضر

بقلمِ فؤاد زاديكى

كانتِ الحياةُ العائليةُ في الماضي تمتازُ بالمحبّةِ و التّضامنِ بينَ أفرادِ الأُسرةِ الواحدةِ، حيثُ كانَ الجميعُ يعيشونَ في أجواءِ الأُلفةِ و الوِئامِ. كانَتِ العائلاتُ تجتمعُ معًا في المساءِ، تُشارِكُ بعضها البهجةَ و السرورَ، و تملأُ الأجواءَ بالأحاديثِ و الذّكرياتِ الجميلةِ. في تلكَ الأيّامِ، لم تكُنْ هناكَ هواتفُ محمولةٌ أو وسائلُ تواصلٍ حديثةٌ، لكنَّ دفءَ العلاقاتِ كانَ كافيًا ليملأَ القلوبَ بالسّعادةِ.

عندَ ظُهورِ الرّاديو لأوَّلِ مرَّةٍ، كانَ يُمثِّلُ حدثًا مُهمًّا في حياةِ العائلاتِ، إذْ كانوا يلتفّونَ حولَهُ في حماسٍ و شَغَفٍ، يستمِعونَ إلى الأخبارِ و الأغاني و البرامجِ الثقافيّةِ، و يتناقشونَ في ما يسمعونَهُ، فيتحوّلُ الوقتُ إلى لحظاتٍ ممتعةٍ لا تُنسى. و معَ ظهورِ التّلفزيونِ فيما بعد، ظلَّتِ الأسرةُ تُحافِظُ على هذا التّجمّعِ، فتجلسُ مُتحلّقةً أمامَ الشاشةِ، تُشاهِدُ الأفلامَ و البرامجَ، و تُعبّرُ عن آرائِها، و تتبادلُ الأفكارَ و الضّحكاتِ.

لم يقتصرِ التّرفيهُ في ذلكَ الوقتِ على التّلفزيونِ و الرّاديو فقط، بل كانت هُناكَ العديدُ من الألعابِ الجماعيّةِ التي تُضفي جوًّا منَ البهجةِ و التّعاونِ بينَ أفرادِ العائلةِ و الجيرانِ. كانت الألعابُ المنزليّةُ مثلَ "الدّامة"، و "لعبة الحزازير"، و ألعابِ شدّة الورقِ مثلَ "الكونكان"، و "الأوغلان"، و "الوِشلي"، و"الطرنيب"، و"المخالفة"، و "الپنيكيل"، و "الچوكير"، و "التريكس"، و الپينك و غيرها، و ظهرت بعد ذلك لعبة الدّومينو و الشّطرنج و كنتُ اوُلَ مَن جلبهُما إلى البيتِ، و لعبة السّهم تحظى هي الأخرى بشعبيّةٍ. كما كنت و أخي المرحوم (جوزيف) نتنافس معًا على نظم أبياتٍ من الشّعرِ و محاكاة قصائد لكبار الشعراء و غير ذلك من أنشطة شعريةٍ مختلفةٍ.
كانَ أفرادُ العائلةِ يَجلسونَ معًا لساعاتٍ طويلةٍ في جوٍّ من المرحِ و التّحدّي، يتبادلونَ الضّحكاتِ و النّكاتِ، و يستمتعونَ باللّحظاتِ البسيطةِ. و أذكر جيُدًا أنّ والدتي (أطالَ اللهُ بعمرها)، كانت تجمعنا لتسألنا عن معرفة عائلة مكوّنة من كذا شخص بينهم كذا ذكر و كذا أنثى فمن هي هذه العائلة؟ بالطّبعِ و لكون مجتمعنا الديركاوي كان صغيرًا يومذاك، فإنّ الكلَّ كان يعرفُ الكلّ و لهذا كانت تلك اللعبة الحزّورة ممتعةً، أغلب الأحيان كنّا نعرفُ مَنْ كانت العائلةَ المقصودة أو العوائل من خلال تلك اللعبة و تسمّى (لي بيت لي بيت) فَمن هم أصحابُ هذا البيت؟

أمّا في الخارجِ، فقد كانَ الأطفالُ و الشّبابُ يُمارسونَ ألعابًا شعبيّةً مختلفةً مثلَ "بوكه هرا"، و"باقوش"، و"طپش"، و"صلّابة"، و"مَخطَبوية"، و"تُوش"، و"بِرّه"، و"حمار و حايط"، و"قَدَيان"، و"كيلفرّه"، و"لعبة المزاعير"، و"الچطل"، و "الگلّل"، و السّيگافه و غيرها. كما كانت هناكَ الزّياراتُ و الزّياراتُ المُتبادلةُ و المشاويرُ، التي كان أغلبُ النّاسِ يقومونَ بها سيرًا على الأقدام فُرادى و جماعاتٍ في شوارع البلدة و على طريق الجسر في ديريك كانت هذه الألعابُ تُعزّزُ روحَ الجماعةِ و التّعاونِ، و تُنمّي العلاقاتَ الاجتماعيّةَ في أبسطِ صورِها.
و في احيان كثيرةٍ كان الرجالُ يجتمعونَ معًا كفريقِ يذهبون إلى إحدى القرى باتّفاقٍ مسبق للعب الخوصة (لعبة الخاتم) و هي كانت حماسيّة للغاية بحيث يتنافسونَ كفريقين و من منهما يحصلُ على ما مجموعُه ٢١ نقطة فهوَ يربحُ اللعبةَ، بينما الفريق الخاسر يقوم بشراء ما كان متّفقًا عليه كشرطٍ للعبة. كانتْ تلكَ لحظاتٍ اجتماعيّةً فيها تقاربٌ و تواصلٌ و تَعاطِي النّاسِ مع بَعضِها البعضِ.

في ذلكَ الزّمانِ، كانتِ البساطةُ هي سرُّ السّعادةِ، و راحةُ البالِ هي الطّابعُ السّائدُ في حياةِ الناسِ. لم يكنْ هناكَ هاجسُ الوقتِ أو ضغوطُ الحياةِ الحديثةِ، بل كانتِ القلوبُ عامرةً بالمحبّةِ و التّآلفِ.

لكنَّ الحالَ تغيّرَ في العصرِ الحاضرِ معَ انتشارِ وسائلِ التّواصلِ الاجتماعيّ مثلَ "تويتر"، و "فيسبوك"، و "تيك توك"، و "غوغل"، إلى جانِبِ الاستخدامِ الواسعِ للهَواتفِ المَحمولةِ. أصبحَ أفرادُ الأُسرةِ يَجتمعونَ في مكانٍ واحدٍ، لكنَّ كُلَّ فردٍ يعيشُ في عالَمِهِ الخاصِّ، مُنشغِلًا بشاشتِه الصّغيرةِ، دونَ الإحساسِ بوجودِ الآخرينَ من حولِهِ.

و رغمَ هذا التّقدّمِ التّكنولوجيِّ، إلّا أنَّ الكثيرينَ يَحنّونَ إلى تلكَ الأيّامِ البسيطةِ، التي كانت تملؤُها الألفةُ و الحبُّ، حيثُ كانتِ العلاقاتُ الإنسانيّةُ أعمقَ، و المشاعرُ أكثرَ صدقًا، و الوقتُ يُقضى في تواصلٍ حقيقيٍّ بعيدًا عن عالَمِ الافتراض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

لوعة الحب بقلم عـبـدالـنــور مـحـمـد غـانـم عـثـمـان

هذه القصيدة الدالية 40 بيتا من م  البحر البسيط ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ لوعة الحب ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ  يـا لـوعـة الــحـب فـي فؤادي            ...