الجمال والفلسفة
*فنجال* فلسفة الفن والجمال , فرع الجماليات (الشيفرة الكونية)
رماز الأعرج ,
(المحاضرة 18)
الجمال والفلسفة
عرف الجمال والفن منذ نشوء الفكر الإنساني , وأدرك الإنسان منذ البدء أهمية الظواهر الجمالية ومدى تأثيرها منذ بواكير نشوء وعيه , وقد حاز الجمال والفن على مساحة لا بأس بها من الفكر والبحث الإنساني , ورغم التناقض والاختلاف بين الفلاسفة وانقسامهم حول الجمال من حيث الأصول إلا أنهم كادوا يتفقوا على المعاير العامة لما يمكن تسميته جميل , وقد أعطينا أمثلة على ذلك في النقطة السالفة , وقد انشغلت الفلسفة بالجمال طوال مسيرتها التاريخية عبر كافة العصور وحتى يومنا هذا,فالجمال ليس مقتصراً على عصراً ما بل هو امتداد تاريخي وتواصلاً موروثاً عبر التاريخ , ولذلك نجد الجمال في كافة مسار تاريخ الفكر الإنساني , سواء كمادة بحث ودراسة أو منتج جمالي .
أثرتنا الحضارات السالفة بالكثير من الجماليات, ومنها ما توارثناه ربما عشرات آلاف السنين وما زلنا نتناقله من جيل إلى جيل .
بحثت الفلسفة الجمال بعدة أوجه وسنرى في الفصل القادم مجالات بحث الفلاسفة ورؤيتهم للظواهر الجمالية , مثل الجمال والحب والأخلاق والدين والتزين وجماليات الكلام والموسيقى والفن الأدائي والدراما والمسرح ,واختلط مفهوم الجمال بالفنون , وسميت فنون جميلة , ووقعت الكثير من الالتباسات بين المفكرين بين الفن والجمال , ووصل الأمر بأفلاطون أن ينفي وجود الفن والجمال في الطبيعة , وأن يعتبر الجمال الحقيقي لا يمكن لحواسنا أن تدركه , وأن الجمال الأصلي يعود إلى (عالم المثل) وهذا الأخير شيء ثابت لا يتغير كما في الطبيعة .
شكلت الجماليات جزء هام وأساسي من الوعي الإنساني وبذلك لا يمكن غيابها عن النشاط البشري بكافة أشكاله , المادية والذهنية , وكذلك في الفلسفة , لا يمكن غياب هذا المبحث والجانب الهام من الحياة الطبيعية والإنسانية , عن أي رؤية فلسفية كما سنرى قريباً .
إن الكارثة الكبرى إن الإنسان لا يرى ما يرثه من مفاهيم , بل يمارس ما لا يعرف له أي أسباب منطقية , و نحمل غالبية المفاهيم والقيم دون أدنى تفكير بها , على اعتبار أنها صحيحة ولا يمكننا رؤية أنفسنا خارج هذا النطاق , فخروجنا عن نطاق ألقاب الموروث يعني خروجنا عن الذات ,, أي من نحن, إن مفهومنا لذاتنا لا بد له أن يمر عبر الجمال والقيم الجمالية , فالسلوك الإنساني والأخلاق وكل ما ينتج اجتماعياً من الضروري أن يكون ذات بعد جمالي ما , وإلا فلا يقبل اجتماعياً , وبذلك تصبح موروثاتنا الجمالية ومفاهيمنا موروثة ولا خيار لنا بها.
الجمال كمفهوم اجتماعي هو في النهاية ذو أساس فلسفي ورؤية منطقية ما , وهذا بالتحديد ما يميز الجمال في المجتمع عن الطبيعة , فالجمال طبيعي وموضوعي في وجودة بحيث أنه شامل لكل الموجود , وكل كائن حي يتفاعل مع الظواهر الأخرى المحيطة به حسب مستوى تطوره العصبي ومدى مساحة الذاكرة والإدراك , وبما أن الإنسان ذو مساحة إدراكية واسعة ومتطورة , وفكر يشكل رؤيته للعالم , صاغ الإنسان هذا العالم في مفاهيم مجردة , وشملت حتماً الجمال , كقيمة اجتماعية , ولذلك لا يمكننا أن نجد في الجماليات ومباحثها جميعها بما فيها الفن أي خروج عن نطاق الفلسفة , بل تدور غالبية الجماليات الإنسانية المنتجة حول قضايا فلسفية وإنسانية , ونلاحظ في الفترة الأخيرة الجنوح نحو الأبعاد الفلسفية الغامضة في الجماليات المعاصرة .
امتزجت الفلسفة بالجماليات الاجتماعية منذ بواكير الوعي الإنساني والفلسفي والمعرفي , بل وتم عزل الجماليات الاجتماعية عن كافة أشكال الجماليات الأخرى بالكامل , وبذلك تم فصل الجمال والفن عن أصوله فصلاً قصرياً تعسفياً , ونلاحظ ذلك في حوارات الفلاسفة , فالكثير منهم حين الحديث عن الجمال , يتحدث عن الفنون بالذات ولا يوجد أي تلميح أو تصريح عن الجمال أو الفن كظواهر وجزء من الطبيعة .
منذ ذلك الحين غابت الرؤية الشاملة للجمال كحالة من حالات الوجود , واقتصرت الرؤية الفلسفية الجمالية على البحث الفلسفي ولا يوجد تاريخياً أي مرجع يبحث في الجماليات بشكل اختصاص سوى في العصر الحديث , وبقية في النهاية في نطاق الرؤية الفلسفية , ولهذا السبب اعتبر الجمال والفن من المواضيع الفلسفية البحث , ولم يظهر أي علم آخر يفسر ويبحث هذه الظواهر سوى الفلسفة التي ألقي على عاتقها الكثير من الإشكالات المطلوب حلها مما أثقلها بحمولة أكبر مما تحتمل إمكانياتها العملية .
انحصر مفهوم الجمال بعد اليونان بالمجتمع وراح الفن يسير باتجاه الابتعاد عن الطبيعة تدريجياً , وتحولت كافة أدوات الإنسان إلى أشياء مصنعة ومنتجة اجتماعياً , بينما في الحضارة السومرية مثلاً و اليابانية الصينية وغيرها من حضارات آسيا القديمة وفي غالبية القارات , فإن الشعوب القديمة قد استخدمت جمال الطبيعة المباشر , فقط تم أخذه إلى المكان المطلوب أن يكون به كجمال خالص , و الحلي المصنوعة من الأصداف البحرية دليل على ذلك , وقد عثر في المغرب في إحدى الكهوف القديمة واسمه (مغارة الحمام ) على حلى صدفية يرجع تاريخها إلى 106 ألف عام , وتعتبر أقدم ما عثر عليه من حلى حتى الآن .
تثبت هذه القطع الجمالية مدى قدم استخدام الزينة والتجميل اجتماعياً , ولو نظرنا إلى منتجات الفراعنة مثلاً نجدها مليئة بل ومزدحمة بالجماليات المقدسة وذو البعد الفلسفي , ولكنها في غالبيتها من عناصر الطبيعة المباشرة , بل نجد أن الكثير من الحيوانات قد امتزجت وميزت الثقافة الفرعونية , فالنظرة للجمال وموقعه كانت مختلفة من حضارة إلى أخرى , والفلسفة أصبحت القالب الذي يصك الوعي الاجتماعي على أساسه , وبذلك لم يسلم شيء من الهيمنة الفلسفية , ونرى ذلك واضحاً في الفنون القديمة جميعها , فرغم أن هذه الفنون مشبعة بعناصر الطبيعة المباشرة والتجريدية إلا أنها خاضعة للرؤية الفلسفية .
يبدو هذا الأمر غريباً في تشابه الحضارات القديمة و رموزها أحياناً رغم أن التواصل بينها لم يكن متاح , على حد علمنا , ونلاحظ مثلاً في الصين واليابان أن أثر الجماليات الطبيعية ما زال حياً في الاستعمال الجمالي المعاصر , إن للفلسفة أثراً مقرراً في الجماليات الدارج استعمالها شعبياً , وفي النظرة للجمال ومعايره ,وتبقى المعاير الجمالية الأخلاقية أكثر هذه المعاير ثباتاً ويجمع عليها الغالبية العظمى من الفلاسفة بكافة أطيافهم ومشاربهم الفكرية مثل (الحب والصدق والحرية والعدل والمساواة والسلام) وغيرها من القيم التي تعتبر من القيم الجمالية الإنسانية الأخلاقية الجميلة على مدى التاريخ الإنساني .
تبين لنا بوضوح عزل الفلسفة اليونانية للجمال عن الطبيعة , ومن منا لا يعلم بما قام به لاسكندر المقدوني من قبيح الأعمال حين قام بمحو الحضارة الفرعونية وغيرها من الحضارات التي استعمرها واستعبدها , حيث ألغيت لغات هذه الشعوب وحلت محلها اللغة اليونانية , واللغة ليس مجرد وسيلة تواصل بين الناس ,, اللغة وعاء ثقافي وفكري و وسيلة تفكير وثقافة ومعتقدات وكل ما يحمله شعب ما من مفاهيم وقيم وعادات وتقاليد الخ .. إن محو اللغة يعني بالتحديد (زوال الحضارة من الوجود ) وهذا ما قضى على الحضارة الفرعونية والبابلية وحضارات أمريكا واستراليا وغيرها من الحضارات التي تم محوها عبر التاريخ , وما زلنا مع الأسف نسمي طغاة التاريخ ومدمريه أبطال وعظماء وصانعين التاريخ المزعومين .
لقد وضعت الأيديولوجيا الجمال والفن في قالبها المقيت الجائر تماماً كنظام الملكية الخاصة التعسفي المجنون الذي حول الطبيعة والجمال وكافة القيم الإنسانية الجمالية والأخلاقية وغيرها إلى نظام الربح والتجارة والاستهلاك , حتى في أبسط المنتجات الاجتماعية والإنسانية .
إن الإشكالية هنا ليس في الفلسفة كعلم عن الكون والحقائق , بل الإشكالية في طبيعة الرؤية الفلسفية المثالية التي تم تسييسها وانحازت في الغالب للنظام السياسي المسيطر وقد أدركت الأنظمة السياسية أهمية الفلسفة وخاضت صراعاً شرساً مع إي رؤية فلسفية تتعارض مع مصالحها بل دعمت وأسست فلسفتها المفسرة ومبررة لوجودها وبهذه الطريقة تم السيطرة على الفكر الإنساني وحصره ضمن مصالح النظام السياسي وتم السيطرة على الدين والفن أيضاً وبذلك أحكم النظام السياسي قبضته على البنية الفوقية المؤسساتية في المجتمع بالكامل , ومن خلالها السيطرة على صناعة الإنسان, وإنتاج أفراد حسب الطلب , هذا ما أدى إلى السيطرة على الفكر الإنساني وتحويله إلى وسيلة للاستعباد والاستغلال بدل أن يكون وسيلة لتحرير الإنسان من القوى والقوانين الطبيعية التي تواجهه .
ونرى بوضوح في الفلسفة اليونانية إلى أين سارت بالجمال وكيف تم فصله بالكامل عن الطبيعة , وعلى الرغم من المستوى التقني والحرفي العالي التي امتازت به المنتجات الفنية اليونانية , بقي أفلاطون وغيره على أثره مصرين على أن الجمال ليس في محاكاة الطبيعة , فالطبيعة متغيرة , بينما الجمال الحقيقي خالد لا يتغير , وبذلك مهما أتقن العمل الفني المشابه للطبيعة يبقى مجرد انعكاس وهمي للجمال الحقيقي الكامن وراء الطبيعة , هذه الفكرة هي ما قضا على مفهوم الجمال الفلسفي وجعله خارج الطبيعة وبذلك خارج البحث المنطقي العلمي , وبذلك يصبح الإنتاج الجمالي ليس نتاجا طبيعيا , بل مثالي غيبي لا يمكن دراسته والإحاطة به بالكامل , ويعتمد بالأساس على حالة حدسية وليس معرفية , وبذلك بقي الجمال والفن خارج البحث العلمي الدقيق والموسع لغاية القرن الثامن عشر.
لقد شكل تطور الفلسفة وتعدد الرؤية الفلسفية في عصر التنوير الثاني في أوروبا مدخلاً لتطور واتساع في مساحة الجماليات في الفلسفة الحديثة , وبدأ الاهتمام يبرز من جديد على السطح بدراسة الظواهر الجمالية والفنية , ولم يكن حتى ذلك الحين قد ظهر بعد علم الجمال كعلم منفرد بالجماليات , وفرع من فروع الفلسفة , كان الجمال يبحث كموضوع من مواضيع الفلسفة , وفي الغالب يبحث كفن وكمنتج إنساني اجتماعي جمالي, ولا يبحث الجمال كطبيعة وواقع موضوعي طبيعي بالدرجة الأولى , وبذلك بقي الجمال خارج البحث الجاد والموضوعي العلمي الهادف إلى كشف الحقائق كما هي عليه بدل تأويلها ولوي عنقها لتتناسب مع مفاهيمنا العاجزة أحياناً عن رؤية الواقع بوضوح .