سأل رسام زوجته باستغراب: لماذا تعيدين طلاء لوحتك بعدما عملتي فيها جاهدة أياماً عديدة؟
أجابت الزوجة: اللوحة لم تعجبني، لم أتوصل إلى الذي أبتغيه منها، ألوانها حرنت لم تنساب داخل شراييني براحتها، ولم يرضاها عقلي، أريدها لوحة ناطقة، تعبر عن داخلي الملتهب بحب الانسانية والحرية والعدالة والجمال.... أريد لوحتي جزءا مني... من فكري وكياني أريدها أن تكون هي أنا، وأكون أنا هي......
قال الزوج: هذه عقدتنا نحن معشر الفنانين، دائما نمتطي الشهب، لا نتوقف عند حدود الكون، لا نرضى عن اعمالنا التي نصنعها، دائما نمخر عباب الكون، ونراقص النجوم... ولا نتوقف عند حدود...
أتدرين يا حبيبتي، أنت تذكريني بالفنان مايكل أنجلو أعظم رسامين القرون الوسطى الذي كلفه البابا يوليوس الثاني برسم أيقونات كنيسة سيستين في الفاتيكان...
احتار الرسام ماذا يرسم، الأمر كان معجزا، السقف واسعا، وايضا الجدران جرداء، فماذا يرسم؟ كان تارة يرسم هنا، وتارة يرسم هناك، ثم يذهب بنهاية النهار إلى الحانة متعبا، غير راض عن الذي رسمه، أحيانا كان يخبط رأسه في الحائط، وأحيانا يخبط رأسه على طاولة المقهى، راجيا من الابداع الحضور، لكن الابداع كان يخذله، لم يسعفه... فأضحى حزيناَ لعدم رضاه عن الأيقونات التي كان يصنعها، كان يراها... مجرد رسومات يلصقها خالية من الروح، تائهة في المكان...
بناء الكنيسة ضخم في مساحته وحجمه، لكنه بارد لا تسري حرارة الجمال في سقفه ولا جدرانه...كانت لوحات الجمال غائبة عن الكنيسة، حتى تجعلها دارا للفكر والتأمل والتاريخ.
لذلك كلف البابا مايكل انجلو أعظم الرسامين آنذاك بتزين الكنيسة بالرسومات المقدسة.
الرسام احتار ما الذي يريد أن يرسمه، كان الكهنة يقترحون عليه آراء وافكاراً مشوشة، وهو لم يكن راضيا البته عن تلك الأيقونات التي كان يرسمها...أيقونة هنا، وأيقونة هناك، لا تملأ ولا تناسب مساحات واسعة شاسعة، يجب أن تترابط وتتناغم وتتكامل والرسام عاجز لا يعرف ماذا يفعل...
تلك الأمسية، ذهب للحانة كعادته وهو مرهق الفكر، متعب الجسد. ارتمى على أحدى كراسي المقهى، وطلب من الساقي نبيذاً يروي به جوفه الناشف. جاء الساقي حاملا النبيذ في الآنية الكبيرة.
تنشقه الرسام، فاستغرب رائحته، ثم تذوقه فلم يرق له طعمه، نظر إلى الساقي باستهجان وقال ما هذا؟
نبيذك حامض لا يشرب... تذوق الساقي النبيذ الذي سحبه للتو من البرميل الخشبي الكبير، استغرب وقال للرسام: الحق معك يا سيدي...أنا آسف، وقال جملة سجلها له التاريخ: إذا كان نبيذك حامضاً القِ به، وذهب إلى برميل الخمر وسكبه على الأرض وهو يقول: إذا كان نبيذك حامضاً القِ به...
لمعت كلمات الساقي في رأس الرسام مايكل أنجلو،
(إذا كان نبيذك حامضاً القِ به)
خرج مايكل انجلو من المقهى راكضا إلى كنيسة سيستين... نظر إلى أيقوناته على الجدران، وقال: نعم لوحاتي حامضة، يجب أن ألقي بها إلى الجحيم
جمع براميل الألوان كلها، ومزجها في برميل واحد كبير وأخذ يرشها طرشاً على لوحاته... وظل يطرش الألوان على اللوحات حتى أتلف كل الذي رسمه، وفر هاربا...
جن جنون البابا، وأرسل الشرطة للبحث عن الرسام المجنون الهارب.
تنكر مايكل انجلو، وعمل في أحد مقالع الرخام في الجبال عملا متواضعا، باسم مستعار....
في يوم متعب كان الطقس ربيعياً دافئاً، صعد مايكل إلى قمة الجبل يتمتع في جمال البحر وسحر الطبيعة وغروب الشمس... راقه منظر الغيوم كانت تشكل لوحات رائعة، شكلتها الأشعة الذهبية الحمراء... أدهشه منظر تلك الغيوم، وحينها اشرق نور
الإبداع جليا، ارتسمت فكرة رسومات الكنيسة في ذهنه ... وتوضحت في ذهنه حكايات سفر التكوين... وآدم وحواء والخليقة، مرورا إلى يسوع المسيح وعجائبه والمسيحية والقيامة المجيدة...التي هي جوهر المسيحية في كل الأزمنة، مرت تلك الصور جميعها بمخيلة الفنان، وتبلورت الفكرة الكاملة في ذهنه، فأحضر القرطاس. وأخذ يرسم، ويرسم، كل ما كان ينوي أن يرسمه في سقف الكنيسة وجدرانها... ثم حمل الأوراق وعاد راكضاً إلى الكنيسة...
استقبله البابا بغضب مجنون، وعتاب شديد، وفرح هستيري... لقد عاد الأبن الضال...
قال مايكل:يا سيدي كان خمري حامضا، لكن الآن سنحتسي خمراً جيداً...
نصب الرسام السقائل والسلالم وبدأ الرسم، بقي مستلقيا على ظهره مدة أربع سنوات من 1508 -1512 فوق الأخشاب المرتفعة حتى أتم رسم لوحات السقف الرائعة، والأيقونات المقدسة وجميعها لا تزال إلى يومنا هذا، قمة في الاعمال الكنسية، وتحفة الفن الخالد، الذي يشهد بعظمة مايكل انجلو وأعماله الفذة التي أدخلته التاريخ بامتياز...
بعدها البابا لم يعتق مايكل أنجلو لقد كلفه بأعمال كثيرة.
وعديدة...
قالت الزوجة: من يدري، قد أكون رسامة الألفية الثالثة
فعلها الرسام المذكور بطيبة خاطر لأن دافعه كان محبة سكان السماء
كاتب القصة: عبده داود