-(§)-{ الداء والدواء }-(§)-
بقلمي : د/علوي القاضي.
... نشأ ( رحمه الله ) في أسرة فقيرة ، فقد ولد يتيما ، ثم أصبح مسؤولا عن أمه وجدته وأخواته البنات ، تعرفت عليه في الكلية ، ولازمني طوال فترة الدراسة ، فقد كان يطمئن لي فكرا وثقافة وتعاطفا ، فلابأس أن أكون قريبا منه حتى فى المستوى الإقتصادي ، ثم إفترقنا بعد التخرج وألقت الدنيا بكل منا في طريق مختلف ، ثم شاءت الأقدار أن نلتقي بعد سنوات
... وكلما التقينا ، تعودت منه مر الشكوى ، وعودني أن أستمع له منصتا وكأن على رأسي الطير ، وكنت دائما ألاحظ تعبيرات وجهه الشاحب المكتئب ، فكان يعض على شفتيه وتصطك أسنانه دائماً ، وينظر إلي شذرا ، وكأنني كنت عونا للدنيا عليه
... وكلما التقاني كان يكرر نفس الشكوى ، لاتغيير وكأن مشاكله التصقت به كظله ، حتى نبرات صوته تتسم بالحزن ولهجته وتعبيرات وجهه يغلب عليها الكٱبة ولم تتغير ، حتى كلماته التي كان يكررها دائما كانت تمتزج بأصوات أضراسه حينما تصطك
... كان دائما يتمنى أن يحيا كما يحيا الأغنياء السعداء ، وحينما أوضحت له أنه ليس كل غني سعيد رد بغلظة : لاتقل لي إن معظم الأغنياء غير سعداء ، ولاتحاول أن تفلسف لي الفقر لتحببني فيه ، وتشوه لي الغنى ، أنا أعلم ٱراءكم ياأصحاب الطبقة المتوسطة
... واستمر في حديثه ، ياأخي لاتلمني أريد أن أكون غنياً ، فأنا لست راضياً بالمرة عن نفسي وعن ظروفي ، وعن وضعي الحالي
... أريد مالا مثل قارون !! ، أريد سيارة أحدث موديل وإن أمكن طائرة خاصة !! ، أريد فيللا كاملة الأجهزة !! ، أو على الأقل عمارة بالأسانسير !! ، أريد أن أمتلك بدل جديدة أعلى الماركات !! .. أريد أن أرتاد السينيمات والمسارح والحفلات والسينما وأجلس بلكون مع أكابر القوم والأغنياء !! ، أريد عضوية دائمة في أشهر النوادي وأشاهد المباريات فى مقصورة الدرجة الأولى مع المسؤولين وعلية القوم
... أريد أن أدخل الكباريهات والبارات وأغيب عن الوعي إذا احتجت !! ، أريد أن أتناول أشهى المأكولات في أشهر المطاعم !! ، أريد زوجة من هؤلاء الأغنياء تنتقل بي إلى عالمها الفسيح
... أريد أن أعرف دواخل هذا العالم ( عالم الأغنياء ) ، التي قرأت عنها حتى إمتلأ عقلي وقلبي ونفسي حقدا وحسدا وغلا عليهم !! ، أريد أن أغوص في أعماق عالمهم لأرى بعيني وأسمع بأذني !! ، أريد أن أعيش كما يعيشون !!
... لاتلمني يازميلي فأنا أعيش في حرمان منذ ولادتي ، إياك وأن تقول لي أن ( الله يريد ذلك ) ، لأن الله لايرض لعبده العذاب ، ربي يريدني أن أحيا ، وخلقني كي أعيش وأتحرك وأشعر وألمس وأحس وأبتسم وأسعد بكل شئ وٱخذ نصيبي من الدنيا
... أخى أنت لاتعلم كم عشت سنوات عجاف وأنا طفل بعد وفاة والدى ، وكم عانت أمي في تربيتي أنا وإخوتي كم إنحنى ظهرها حتى تستقيم ظهورنا ، وكم تعرضت للأذى الجسدي والنفسي في سبيل تربيتنا ، وكم تغيرت شخصيتى وفكري بعد أن أصبحت شابا ، لقد كنت أذاكر في ضوء مصابيح أعمدة الشارع
... لقد كفرت بمثلكم العليا ، كفرت بأخلاقكم ، وفضائلكم ومبادئكم ، فهي في نظري كلمات جوفاء لامعنى لها عندي ، كانت الحقيقة الوحيدة التي أعرفها أني فقير ، ليس لي تِركة مثلكم ولاميراث ، كل أملاكي هي ماهيتي ( ثلاثون جنيهاً ) فقط ، كأي موظف صغير حقير ، وليس لوالدتي معاش عن والدي ويشاركني في هذا المبلغ جدة وأم وثلاثة إخوة بنات ولكل متطلباته ، وكلهم سعداء إلا أنا لأنهم لايشعرون بحجم ماأنا فيه من أزمات ، أما أنا فأشعر ، أشعر دائما أني ميت ، أشعر أني أتمنى أشياء لاأستطيع أن أحصل عليها مثل غيري من الأغنياء
... أشعر بلحظات من الضعف الإنساني مايجعلني أكره اليوم الذي ولدت فيه ، وأني على وشك أن أكون قاتلاً أولصاً أوسفاحاً أومحتالاً أومُهرِب مخدرات ، لعلي أعوض النقص الذي أعاني منه وأشف غليلي من هذا المجتمع الظالم
... ياصديقي إن في حلقي مرارة لاتطفئها إلا هذه الخيالات المريضة
... حاولت مقاطعته ونصحه ببعض الحلول التي ترضي الله ورسوله ، ولكنه لاحقني بنظرات إزدراء مسترسلا : لاتقل لي إبحث عن عمل آخر أو إشتغل بالتجارة ، فأين الوقت لكل هذا ، وبين عملي وسكَنى ساعتين من السفر ، وخروجى كل يوم في السادسة صباحاً وعودتي في السادسة مساءا مرهقاً ، مُتعباً ، لاأصلح لعمل شيئ ، ولاتقل لي أن هناك ملايين مثلي وأقل مني مالا وسعداء ، هذا صحيح ، أنا أعلم هذا ولكنهم خُلقوا هكذا شعورهم هكذا ، ولكني أنا شيء آخر ، وشعوري شيء آخر ، والمهم هو ( أنا ، أنا )
... وكان من عادته أن يكرر أنا ، أنا ، عدة مرات ، وهو شارد الذهن ، وزائغ البصر ، ومعدوم البصيرة ، ينظر إليَّ وهو يعض على شفتيه ، وكأنه يحاسبني ويتوعدني ، وكأنني المسئول عن عذابه ، ثم يمضي إلى حاله يائسا بائسا وأمضي أنا إلى حالي متنهدا وكلي أسى وحزن ، وفي بطني غصة على ماٱل إليه حاله ، محاولا نسيان تلك الطاقة السلبية التي نقلها إلي ، ولكن شبحه يظل يلاحقني ، وشفتاه وصوت إصطكاك أسنانه ، ونبراته الحادة وكلماته التي ينطقها في مرارة ويصطكها بين أسنانه مرة ، بعد مرة ، أنا ، أنا
... نعم هنا يكمن ( الداء ) وما يتبعه من عذاب دنيوي في هذه الكلمة ( أنا )
... كنت أرى دائما أن عذابه ليس في ظروفه ، أوفقره ، أوإيراده البسيط ، وإنما عذابه في شخصيته ، في نفسه هو ، فهناك ملايين الفقراء يعيشون مثله وأقل منه ولايحسون بهذه الأحاسيس والمشاعر المتناقضة
... إن عذابه في عناصر شخصيته التي تتأجج إلى جوار بعضها ، ويشعل كل واحد منها الآخر
... تلك الأفكار والمفاهيم المتناقضة والمتضادة والمتصادمة ، تشكل رغبة حادة بلاعقل ، وشهوة بلاضابط ، وأحلام بلا وسائل ، وأمنيات ملحة وإرادة عقيمة ، وإحاسيس مرهفة وأفق ضيق ، ولهفة مشبوبة وصبر نافذ
... وكلها تصطدم في النهاية ، وتتحول إلى أسباب للشقاء والحقد ، ولاتتحول إلى عمل وفعالية أبداً
... وهو بعُودِهِ النحيل ووجهه الشاحب الهضيم يبدو دائماً كمشروع ( مجرم وجريمة ) فهو أرضا خصبة لوسوسة الشياطين
... وفلسفتي في الحياة ( الدواء ) ، أنني لاأؤمن بأن الإنسان عبد للظروف وأنه مُسيَّر ولاإختيار له إطلاقاً
... فظروف الفقر أوالجهل أوالمرض أوالتربية السيئة لاتحتم الفشل في نظري ، بل هي أحياناً تؤدي إلى النبوغ والتفوق والخير والعبقرية ، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك من أدباء وأطباء ومهندسين ومخترعين وعلماء في كل مجالات الحياة ، لأن العامل الحاسم للفشل هو دائماً الظرف الداخلي ، والظرف النفسي ، وتركيبة الشخصية الفاشلة
... فمن يدعي أن الظروف هي التي تفرض على صاحبها الإجرام كاذب ، لأن أخطر وأهم أسباب وظروف الجريمة ، وأخطر دوافعها ، هو ( شخصية المجرم نفسه ) ، والفقر برئ من ذلك ، فهناك لحظة حاسمة تصل فيها شخصية المجرم لدرجة الغليان وتفور عناصرها لتُفقده الصواب ويتحول لمجرم ، تحت تأثير هذه العمليات الداخلية المستترة في نفوسنا : النية ، والإحساس ، والإنفعال ، والتصور ، والتردد ، والعزم ، والإندفاع ، هي مفاتيح لمصيرنا
... وطالما سألت نفسي ، هل الإنسان يستطيع السيطرة على هذه العمليات ، هل يستطيع صاحبي أن يحكم غضبه ، ويسوس ويتحكم في نفسه ، ويقود ثورته ، ويتحكم في إنفعالاته ، ويحجم حقده ، وحسده
... أعتقد أنه يستطيع لوأراد ( العلاج ) ، كما أعتقد أن حبل الحرية ممدود في نفوسنا وأننا نستطيع أن نلوذ به دائماً ، فيد الله تمد لنا هذا الحبل دائماً ولكنّا لانراها
... إعلموا أن في أعماقنا طاقة نور نستطيع أن نطل منها ونستنجد بالله خالقنا ورازقنا ، فنحن لسنا حجرات مغلقة ومظلمة ، تحتوي على الظروف ، وتعكس مؤثرات البيئة فقط بدون حرية وبدون تصرف وبدون إرادة ، ولسنا حفراً تتجمع فيها الظروف ، والفقر ، والجهل ، والمرض ، والأبواب المسدودة
... هناك الدواء يكمن دائماً في قاع المشكلة ، وهناك يد الله ورحمته فلسنا كعيدان القش تحملنا الأمواج ، ويقذف بنا التيار ، وإنما نحن نستطيع أن نسير ضد الريح ، ونسبح ضد التيار ، وضد الظروف غير المواتية أحياناً
... لماذا لم نصل لمستوى سلوك النبات ، فالشجرة رغم أنها تملك مستوى متدني من أسباب الحياة ، لكنها تقاوم ظروفها وتنمو إلى أعلى ضد الجاذبية الأرضية ، والعصارة تجري فيها إلى أعلى ضد قوانين السوائل والضغط الجوى ، وضد الظروف الفيزيقية ، وهي تقف صلبة سامقة في وجه الريح ، لاتنحني للطبيعة ، وهي شجرة عاجزة عمياء مزروعة في الأرض مقيدة بجذورها ، فما بال الإنسان سيد الكائنات الحية جميعها ، وله ساقان يتحرك بهما ، وعينان يبصر بهما وعقل يفكر به ، وقلب يحس به
... أنا لاأصدق أبداً خرافة المصير المحتوم ، والظروف التي تضرب على الناس الذِلّة والمسكنة ، فلا يُبقي لهم إلاالشكوى والسباب والجريمة ، هناك حل دائماً ، هناك مَخرَج طالما أن هناك إيمان حقيقي واعتراف ب ( الداء والدواء )
... وأكرر أن المشكلة ليست الظروف لأن الظروف تتشابه في العائلة الواحدة ، فالأب واحد والأم واحدة وظروف الأسرة واحدة ، ومع هذا يفترق الأخوة على طرق المصير ، منهم النابُغ ، ومنهم المجرم ، والثالث شحاذ ، والرابع مدمن
... إذن المشكلة هي الإنسان ، فالإنسان هو الظرف الحاسم والعامل المشترك في كل الأحوال والمواقف والظروف ، والعامل المهم في الحياة ، وحينما تنسد كل الأبواب أمامه يظل هناك باب مفتوح في باطنه وداخله ، على الرحمة الإلهية ، وحينما يصرخ من اليأس ، فلأنه أغلق بيده هذا الباب أيضاً ، وأعطى ظهره لربه وخالقه
... وأنا أعتقد أن صاحبي يستطيع أن يفعل شيئاً ، يستطيع أن يكف عن الشروع في جريمة ، ويبدأ في الشروع في عمل آخر ناجح