ورشة المعمودية
يدعو أصحاب الكروم الشباب والصبايا من الحي، لمساعدتهم في جني العنب بعد نضوجه التام... في أواخر أيلول من كل عام... في ضيعتنا ـالنبك ـ سوريةـ
يأتي المدعوون، في الصباح الباكر، وعددهم عادة يتناسب مع حجم الكرم الذي يراد قطافه... الكرم يقاس حجمه بعدد الشجيرات (الجفنات) المزروعة فيه، فيقال مثلا: هذا الكرم مائتان جفنة، وهذا ثلاثمائة، وذاك خمسمائة جفنة وهكذا...
ينطلق موكب الجميع إلى الكرم، غالبا سيرا على الأقدام، وهم يرتدون لباس العمل الذي يشبه الثياب التنكرية، الشباب يعتمرون أغطية قماشية يسمونها (السلك)... والصبايا يعتمرن قبعات نسائية غريبة عنا كانت تأتينا من أهالينا الذين هاجروا إلى أمريكا الجنوبية... وخاصة الأرجنتين والبرازيل.
قبعات تخجل الصبايا أن يعتمرنها في الأيام العادية، لأنها غريبة عن مجتمعنا الريفي البسيط...
أما لوازم قطاف العنب وهي كثيرة فكانت تحمل غالبا على الدواب وتسير القافلة... هرج ومرج، وضحك، وابتسامات، وأغاني صباحية، إلى أن يصل الموكب إلى الكرم...
أثناء الطريق كان يلفت نظرنا تلك القصور الجميلة التي أضحت تملأ البساتين، والتي يتباهى أصحابها ببنائها وسعتها وكسوتها الفاخرة، وتقطنها السيارات الفارهة في المرائب...
لكن المشكلة الحاصلة أضحت مساحة البناء أكبر من مساحة الأرض المتبقية...
حدث هذا بعدما ذهب شباب ضيعتنا إلى دول البترول، الذهب الأسود، واحضروا معهم المال الكثير، والذي يجنونه بسهولة، يعودون إلى بلدنا ويتزوجوا خيرة البنات، وسرعان ما كانوا يطلقون زوجاتهم، ليتزوجوا أخريات، أو يتزوجون أكثر من زوجة...هذا أحدث شرخاً أليماً في مجتمعنا الذي لم يكن يعاني من هذا الانحطاط الاجتماعي...
تصل القافلة إلى الكرم الفقير، يقوم أصحاب الكرم يساعدهم الشباب بنصب خيمة كبيرة يشدونها بحبال بين الشجر، وأعمدة وأوتاد يغرسونها في الأرض، ويفرشون تحتها مفارش، يجلس الجميع عليها لتناول طعام الإفطار أو احتساء المشروبات الساخنة مثل الشاي والقهوة والمته... بالمناسبة لم تكن المته معروفة عندنا كثيراً في تلك الأيام. تعرفنا عليها بعد هجرة عدد من أهالينا إلى الأرجنتين والبرازيل في الخمسينات، والستينات، طلبا للرزق وتحسين المعيشة، وهم من كان يرسل لنا الهدايا مثل المته ومصاصاتها...وحتى جوزات القرع النباتية المخصصة لشرب المته منها.
بعد الاستراحة يقوم المضيف صاحب الكرم، بتوزيع الأدوار على الموجودين. طبعا العمل الأساسي هو جني العنب، وهذه المهمة توكل إلى الشباب والصبايا. الجميع يحملون السلال وكل فريق يستلم برحاً (رتلاً أو صفاً من الشجيرات) ويبدؤون بقطف عناقيد العنب، يجمعونها وينقلونها إلى الورشة الثانية، ورشة التغطيس بالمواد القلوية الحافظة والزيت، وأنا اسميها تجاوزاً ورشة المعمودية، بعد تغطيس العنب في الحلل، أو المعاجن الكبيرة، ينقل العنب المغطس إلى مكان ممهد خصيصاً لفرشه حتى يجف تماماً، تحت أشعة الشمس، وعندها يصبح اسمه الزبيب. يأخذون قسما من الزبيب المجفف لذيذ الطعم، فاكهة للشتاء، الذي يأكل عادة مع الجوز الذي هو أيضا من إنتاج أراضينا في القلمون. وقسماً منه يصنعون منه الدبس الحلو. وما ألذه لا نشبع منه لأن حلاوته غير جارحة...
أما السيدات في الكرم، ينشغلن بتحضير الوجبة الدسمة لأجل الظهيرة، غالبا كانت طبيخ الدفين، والدفين هذا قطع من لحم الخراف وعظمه الذي يطبخ مع البرغل، توضع الطنجرة أو الحلة فوق حجرين متوازيين وتشعل نار خشب الشجر اليابس تحتها حتى ينضح الطعام بهدوء، وحينها يغطس الطعام بالسمن العربي الأصيل... وبالفعل كانت أكلة طيبة ولذيذة، قلت كانت بالفعل الماضي، لأنه لم يعد يوجد اليوم سمن عربي أصيل في السوق، ولم يعد اللحم في متناول الجميع...
في عصرية النهار، وكلمة العصرية جاءت من وقت العصر، كان يتوقف العمل ويجتمع الجميع للغذاء
بعد الغذاء يشربون المشروبات الباردة أو الحارة...وتقوم الصبايا بتصنيع التبولة... ومن منكم أصدقائي الغاليين لا يعرف التبولة...هذه الخلطة من البقدونس والخضار والبرغل والليمون، التي لا تزال إلى اليوم هي الأكلة الأكثر انتشاراً وشعبية في سورية ولبنان...
بعد الغذاء، كانت أغاني فيروز هي المفضلة عند الشباب والصبايا وخاصة أغاني الحب أتذكر منها (سهرة حب) لأنني كنت أحبها فعلا، ولا أمل من الاستماع إليها...
ربما لا ينتهي العمل في يوم واحد، إذا كان الكرم كبيراً، كانوا يتابعون في اليوم التالي، أو الذي يليه...
بعد الانتهاء من عملية قطاف العنب والسطاح...
يأتي المعفرون، للتعفير، والتعفير هو إعادة البحث عن بقايا عناقيد أو خصلات العنب غير المقطوفة سهواً، التي لم ينتبه اليها من سبقهم بالقطاف، وهذه يعتبرها المعفرون مكسب حلال لتعبهم. وأهل الكرم يسامحون المعفرين، ويباركون لهم بنصيبهم الحلال...
وبعدها ينتقل الشباب والصبايا إلى كرم آخر.
لأن جميع أهل القرية عندهم كروم عنب، حان قطافها، والجميع يساعد الجميع، وكل قطاف وأنتم سالمين.
كاتب النص: عبده داود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق