الثلاثاء، 27 أغسطس 2024

التخلف و الاستبداد والقهر 3 بقلم علوي القاضي

 «(3) التخلف والإستبداد والقهر 3

دراسة وتعليق : د / علوى القاضى.

... تابعنا في الجزء الاول والثانى من كتاب ( التخلف الإجتماعى ) تأليف الدكتور مصطفى حجازي ، سيكلوجية الشخص المستبد والمقهور ، وتحليل لشخصية المتخلف ، وتأثير سيطرة الأوهام والخوف على سلوكه ، وصراع التحكم والتسلط الخفى بين المرأة والرجل ، نستكمل

... كل من لم يتمكن من النجاح الحياتي كمصدر إعتزاز شخصي يشعر دائما بالنقص مما يضطره إلى التبعية للمستبد ، ولكي يدافع عن نفسه ، يحاول تعويض نقصانه باعتزازه بحسبه ونسبه ، حتى ولو كانت الأسباب الواقعية لهذا الإعتزاز وهمية

... إن ذهن الإنسان المُتخلف لايزال عاجزاً عن إدخال فكرة التنظيم على الواقع ، لأنه يفتقر هو ذاته إلى التنظيم والمنهجية ، ويعيش في التخبط والعشوائية نتيجة لفكره وثقافته المتواضعة

... ويحرص الحكام المستبدين بإطالة الإستبداد والقهر لشعوبهم بأساليب وطرق مختلفة تتناسب مع مستواهم الفكري والثقافي ، ومن المعروف أن طول مدة معاناة الإنسان المقهور ، ومدى مستوى القهر والتسلط الذي فرض عليه ينعكس على تجربة الوجودية للديمومة ، على شكل ( تضخم آلام الماضي ، وتأزم في معاناة الحاضر  ، وانسداد آفاق المستقبل ، والعجز أمام التسلط ، ومايستتبعه من عقدة نقص تلازم المقهور في كل أحواله ، والعجز أمام قوى الطبيعة ، ومايحمله من إنعدام الشعور بالأمن ) ، مما يجعل الإنسان المتخلف فاقداً للثقة بنفسه وإمكاناتها ، وفاقداً الإحساس بالسيطرة على مصيره في يومه وغده ثم يختل توازنه الحياتي

... ويظهر ذلك جليا في منظومة ( التعليم ) فتمارس عملية التلقين من خلال علاقة تسلطية ف ( سلطة المعلم ونظام التعليم والمناهج لاتناقش ، ولو حتى هناك أخطاء لايسمح بإثارتها ، وليس من الوارد الإعتراف بها ، بينما على الطالب أن يطيع ويمتثل ، هذه العلاقة اللاعقلانية تعزز النظرة الإنفعالية إلى الوجود ، لأنها تمنع الطالب من التمرس بالسيطرة على شؤونه ومصيره ، وهي كذلك مسؤولة إلى حد بعيد عن إستمرار الذهنية المتخلفة ، لأنها تشكل حلقة من حلقات القهر الذي يمارس على مختلف المستويات الرتيبة في حياة المتخلف ، وندور في ( حلقة مفرغة )

... وتتحول الدراسة إلى عملية تدجين ، وتفرض الخصاء الشخصى والفكرى على الطفل ، كى يكون مجرد أداة راضخة ، ويتم ذلك بالطبع تحت غطاء وشعار غرس القيم الخلقية ( قيم الإحترام ، والطاعة ، والنظام وحسن السير والسلوك ) ولا يسمح للتلميذ أن يعمل فكره ك ( أن ينتقد ، أو أن يحلل ، أو أن يتخذ موقفاً شخصياً ، أو أن يختار ، ولايسمح له ببساطة أن يكون كائناً مستقلاً ذو إرادة حرة ) ، وبالتالى يقع ضحية لعملية إخصاء ذهنى

... والعلاقة بين الإنسان المقهور والسيد المتسلط ليست جامدة بهذا الشكل وبصفة مستديمة ، فأحيانا يغلب عليها واقعياً التجاذب الوجداني ، وأحيانا التذبذب بين التبعية والرضوخ  ، أوبين الرفض والعدوانية الفاترة ، فيحاول الإنسان المقهور في المرحلة الإضطهادية الإنتقام بأساليب خفيفة مثل ( الكسل والتخريب ) أورمزية مثل ( النُكات والتشنيعات ) ، وهذا يخلق إزدواجية في العلاقة ( رضوخ ظاهري ، وعدوانية خفية ) ، وأبرز مثل على هذه الازدواجية هو موقف الرياء والخداع والمراوغة والكذب والتضليل ، فالإنسان المقهور ( متربص ) دوماً للمتسلط كي ينال منه كلما إستطاع وبالأسلوب الذي تسمح به الظروف

... ومن نتائج ممارسة التسلط والقهر للمرأة مايسميه علماء النفس ( الإستلاب العقائدي ) وهو أن تغير المرأة عقيدتها ورؤيتها لإمكاناتها على خلاف فطرتها ، كأن توقن المرأة أنها كائن ( قاصر ، جاهل ، ثرثار ، عاطفي ، لايستطيع مجابهة أي وضعية بشيء من الجدية والمسؤولية ) ،  وبالتالي لاتستطيع الإستقلال وبناء كيان ذاتي لها وتفقد ثقتها بنفسها 

... التسلط ينمي الأنا العليا ، بقدر ماتتضخم ( أنا السيد ) ، ونتيجة لذلك ينهار الرباط الإنساني بين السيد المتسلط وبين المسود ، ويصبح الأول أسير ذاته ( أنا ومن بعدي الطوفان ) ، وينحدر الثاني إلى أدنى سلم الإنسانية ، ويعمم هذا النموذج من التسلط والخضوع على كل العلاقات ، وكل المواقف من الحياة والآخرين والأشياء

... وتتسم علاقة الرئيس بالمرؤوس بهذا النمط التسلطي الرضوخي ، كما تتسم به علاقة الرجل بالمرأة ، والكبير بالصغير ، والقوي بالضعيف ، والمعلم بالتلميذ ، والموظف ورجل السلطة بالمواطن ، كل سلطة ، مرتبية كانت أم طبيعية ، تصطبغ لامحالة بهذه الصبغة التسلطية ، حتى المواقف من الحيوان والجمادات يتميز بهذا الموقف التسلطي الرضوخي نفسه ، حتى الحب يعاش في البلدان النامية تحت شعار التسلط والرضوخ ، تسلط المحبوب ورضوخ الحبيب ، حتى حب الأم لأبنائها بكل ما يتميز به من حرارة عاطفية يغلب عليه الطابع التملكي ، أي في النهاية التسلط من خلال أسر الحب

... ولكي يمارس المتسلط تسلطه ، ويتأقلم المقهور على ظروفه يتخذ كل منهم  الكذب كأسلوب حياة ، ويصبح الكذب جزءأ أساسياً من نسيج الوجود المتخلف ، علي مختلف الأصعدة وفي كل الظروف ، فالكذب بين المتسلط والإنسان المقهور يصبح سلوكا أساسيا ويعمم على كل العلاقات ك ( الكذب في الحب والزواج ، والكذب في الصداقة ، والكذب في إدعاء القيم السامية ، والكذب في إدعاء الرجولة ، والكذب في المعرفة ، والكذب في الإيمان ، وكذب المسؤول على المواطن ، وكذب رجل الشرطة )

... والإنسان المتخلف في المجتمع المتخلف ، نظرا لضيق أفقه ومحدودية تفكيره  يتحول إلى شخص عدواني ، ومتوتر ، ويفتقر إلى العقلانية ، ويعجز عن الحوار المنطقي ، لأنه يعيش في حالة مزمنة من الإحباط الإعتباطي ، ومن الإهمال ، لأنه متروك لنفسه كي يتدبر أمره كما يستطيع ، وليس هناك مايضمن له حقه أسوة بغيره ، وعليه هو أن يحفظ هذا الحق كما تمكنه الظروف سواء ب ( الإحتيال ، أو التقرب من السلطان وذوي النفوذ ، أو التودد ، أو العنف والصراع من أجل الغلبة ) وقد نوقشت هذه القضية في الفيلم المصري ( فبراير الأسود ) بإسهاب ، وأنصح القارئ بمشاهدته  

... وعلم الإجتماع يؤكد أن عالم الإنسان المقهور هو أشبه مايكون بغابة ذئاب ، عليه أن يعبئ نفسه ويظل يقظاً طوال الوقت لمجابهة أخطارها ، وعندما يحس كل واحد من المواطنين إحساساً من هذا القبيل ، فإن علاقات التعاطف والتفاهم تنهار لامحالة ، لتحل محلها علاقات إضطهادية متبادلة

... ومن الناحية النفسية نتفهم مدى طغيان الطابع ( الحزين ) على الحالة المزاجية للإنسان المقهور ، فطابع الحزن يعمم على كل شيء تقريباً ، ويبدو بصورة أوضح في الأغاني الشعبية التي تكاد تدخل جميعاً في إطار المراثي ، ومن اللافت للنظر أن نلاحظ ندرة الأغاني ذات الطابع الفرح المُتفائل من الحياة !

... وعلم السلوك الإنساني يؤكد أن العالم المتخلف هو عالم فقدان الكرامة الانسانية بمختلف صورها ، العالم المتخلف هو العالم الذي يتحول فيه الإنسان إلى شيئ إلى أداة أو وسيلة الى قيمة مبخَسة

... وكما ذكرنا أن المرأة المقهورة تفقد ثقتها بنفسها ومايتبع ذلك ، فعلى الجانب الٱخر هناك إمرأة مختلفة ، فالمرأة التي تنبغ ، تسحب منها صفة الأنوثة لأن المجتمع المتخلف يرى أن ( التفوق والنبوغ صفة للرجل فحسب ) ، فإذا ماأثبتت إمرأة ما نبوغها بما لايدع مجالًا للشك ، إعترف المجتمع بنبوغها ، وسحب منها شخصيتها كامرأة وضمها إلى جنس الرجال

... والمتسلطون يستغلون الدين فقط لخدمة مواقفهم وتأكيد وشرعنة تسلطهم بالإستعانة بمشايخ السلطان الذين يطوعون الدين لرغباتهم ، ويتوسل المتسلطون الدين ، من أجل ترسيخ العرف الشائع الذي يخدم مصالحهم قبل كل شيء ويعززون سطوة التقاليد من خلال آيات وأحاديث لامجال للشك فيها ، وإلا تعرض إيمان الإنسان المغبون للخطر وأمله الوحيد في عزاء دنيا الآخرة للتلاشي ، ولكن اللافت للنظر هو أن المجتمع التقليدي ، والذين يمسكون السلطة فيه ويتمتعون بكل الامتيازات ، لايبرزون من الدين سوى الجوانب التي تؤكد سلطتهم ، وتعزز العرف الشائع والنظام المرتبي ، فقط تلك الجوانب التي تؤكد على القناعة بالأمر الواقع وتقبله تبرز وتتكرر على مسامع المغبونين ، ( أما الجوانب الثورية في الدين ، وجوانب التحرر ، والإبداع ، والتغيير ، والعدل ، والعدالة ، والتصدي ، والشجاعة ، والجهاد في سبيل الحق وفي سبيل كرامة الإنسان ) ، فيسدل عليها ستار كثيف من التعتيم ، وهكذا يصبح كل ماهو عصري يساعد الإنسان على تحرير ذاته وإمتلاك زمام مصيره بدعة ، وكل توكيد على الحق والعدالة والكرامة وممارستها زندقة ، ويتحول الدين إلى سلاح مسلط على المغبونين ، وهذا أفعل سلاح لدفعهم إلى الإستسلام ، والإذعان لأنه يهدد أملهم الأخير في الخلاص والعزاء في ثواب الآخرة ، خلاص وثواب يجعلان وحدهما حياة القهر ممكنة وحجة مشايخ السلطان ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم ) ، وتناسوا أنه ( لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق ) ، وهم بذلك باعوا ٱخرتهم بدنيا غيرهم مقابل عرض زائل من أعراض الدنيا

... إلى لقاء فى الجزء الرابع والأخير إن شاء الله إن قدر لنا ذلك وقدرت لنا الحياة

... تحياتى ...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

أعلم حاجتك بقلم عبدالعزيز دغيش

أعلم حاجتك .. أشعر بأناتك أتحسس طيلة وقتي أوتارك على شدة عزف تضرب أوتار القلب وأعشاره أراقص ظلك وخيالك أُرْجِعُها كل ليلٍ حين تداعبُ خيالي و...