أمنيات وطن
رسمها بعينيه كواحة ماء جافة وسط بيداء قاحلة، أبصرها بعقله كنخلة خاوية بلا تمرُ وسط بستان محروق، سقطت بيديه كسنبلةُ فارغةُ في حقل متروك، عرفها بحلمهِ كشمس غاربة وسط سجن معدوم، شاهدها ببصيرته كدستور ميتُ وسط دار عدالة مغصوبة ، دمعها بعاطفته كقبلة عابد وسط معبد مسلوب،عشقها بقلبة كفتاةُ عارية في دار بغاءٍ مغمور، عطشها كخمرة كأس وسط محل خمرةُ معمور، هرب منها كقنبلة موقوتة وسط ساحة حرب مدمرة، خاف منها كدمعة يتيم باكية في دار فقرٍ مهجور، تلعثم قرأت كلماتها في مدرسة علم مقفلة أبوابها ، سعلها كشراب مُزَيَّف مِن دار شفاءٍ بَاهِظة ، تفتت بيديه كطوب بناءً رَدِيء من جدار بيت مواطن مديون، قضم طرفها كرغيف خبز عفنُ عند مخبز رغيفه مخلوط، خفت بيديه كسلة طماطم وسط سوق ميزانه طَفِيفٌ.
اعتكف بصومعته وبكى بعد أن لملم بقايا صورها من احاسيسه المرهفة، وشكلها كلوحة تجريدية مشكلة، كأنها ثلاثية الأبعادِ كأنها تمثال لجسد فتاة ولكنه جسدُ جرد مِن اللمسات، ليس فيها قلبُ، يدُ،عقلُ، لسانُ، عينين، شفتين، أذنين، قدمين، وعاء رحم، جلد،شعر،جدائل، حواجب، أنف، فم، ولا كاحلين، ولا أصابع، ولا، ولا، ولا .....فقد جردت مِن كل شيء!
وضع لوحتها وسط مركز المدينة كمعلم شامخ لها!
تعجب الجميع من جسدها الفارغ، فلا معنى لها ولا لون لها ولا شكلُ؛ كأنها عصف طير فارغ تداعبه الريح من كل جانب!
نادوا عليه باستعلاء: لماذا تريد أخافتنا بجسدها هذا؟ أتحب أن تجلب لنا النحس تعويذتك هذه! أتريد أن تسرق السعادة مِن بيوتنا!
تجمهر الناس حوله وقرروا أن يحرقوه وجسدها المرسوم؛ فأجابهم بصوتُ قوي جدًا، حتى أفاقوا مِن غفلتهم هذه!
لماذا تجنوا علي بأشياء لم أرتكبها؟ فقط أبصرتها مِن خلال أفعالكم ! خذوا تلك الأقلام وهذه الأصباغ لترسموا لها ما فقدته مِن احاسيسها، وبعدها سانحتها لكم لتعرفوا شكلها وحينها نفذوا ما تشاءون بنا!
أدخلت الحجة بعقولهم؛ بينما نزلت الحيرة في نفوسهم،!
كيف لنا أن نرسم مالم نحط به علما؟ وكيف نصبغ لها ألوانًا ونحن لم نبصرها من قبلُ؟
ظلوا بحيرة مِن أمرهم، ألى أن صعد مِن بينهم طفل يتيم؛ فأخذ قلم حبرٍ من يد كبيرهم ورسم لها وعاء رحم واذرف دموعه عليها، هزت دموعه ذاكرتهم العمياء ، فتناولوا أقلامهم وأصباغهم وقاموا بتشكيلها.
فرسمت الفتاة لها وجهها، رسم المزارع شعرها والفلاح جدائلها، رسم القاضي عينيها، رسم رجل الدين قلبها، رسم الضابط قدميها، ورسم المعلم والمهندس والطبيب يديها، ورسم عابر السبيل كاحليها، ورسم الكاتب اصابعها والإعلامي فمها.
ثم أخذ احاسيسها منهم وقام بنحتها فشكلها تحفة فنية لفتاة في العشرين مِن عمرها كأنها الشمس في الضحى والقمر في الدجى، جميلة براقة يكاد جمالها يسرق عقولهم، فاتنة تسر الناظرين.
فقال لهم ما أسمها؟ فنطق الجميع أنها الدنيا!
فبكى كلًا منهم على دنياه؛ فرجعوا اليه وهم يكفكفون دموعهم بأكمامهم وقالوا له: لماذا لا تبكي معنا؟
فقال لهم : أني أنا الوطن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق