الشيخ النجار
قصة قصيرة
بقلم / مصطفى علاء بركات
رفع طرف جلبابه الأبيض إلى نهاية الثوب العلوى الرمادي الخاص بأئمة الأوقاف ، قفز من القطار
و قد أحكم ذراعه تحت إبطه على نسخة كبيرة خضراء من مجلد الفقه على المذاهب الاربعة ( فصل العبادات ) ، عدل عمته الأزهرية و بدأ السير بخطوات سريعة متلاحقة على تلك الأراضي الطينية الرطبة ، كان يسير و إبتسامة عريضة لا تفارقه ، و وجهه مشرق منير مثل الصفحة البيضاء ، ينظر هنا و هناك ، يلقى السلام على كل من ينظر فى وجهه ، لم يتوقع يوما أن يتم إنتدابه لمدة أسبوعين بالمسجد الكبير التابع للأوقاف بالقرية ، منذ دراسته فى قريته التى تبعد عن قرية ( الشيخ النجار ) بحوالي ساعتين و نصف بالسيارة ، و هو يستمع لمديح الناس و ثنائهم على الشيخ النجار ، و أن الله أكرم مصر بالجامع الأزهر ، و أكرم قريتهم بالشيخ النجار ، على مدى سنوات أراد كثيراً
ان يتواصل معه عبر القنوات الرسمية للمشيخة .. و لكن لم يصل لشىء ، أرسل عدة خطابات رسمية ، و طلبات حكومية و لكن لم يصل له - حتى علم انه توفى من عام ، كان مبهورا بتأثيره على الكبار و الصغار ، و كان يراه مثالاً للعالم المجد المجتهد
لفت نظره محل صغير للفاكهة و الخضروات ، كانت منظمة على شكل مربعات متساوية من الصناديق الخشبية ، تفوح منها رائحة الخضروات الطازجة من طماطم و فلفل حار ، و شاب فى أواخر العشرينات يرفع بيده الصناديق لتقوم بإفراغها لفتاة رقيقة الملامح ، تحمل طفلا صغيرا ممتلىء الوجه و الخدين ، و هى تداعب خده برفق فيبتسم و يضحك بصوت راقص ، يتحرك معها كل جسده الصغير
- السلام عليكم ، كنت أسأل عن معهد الشيخ النجار
ترك الشاب الأسمر الصناديق التى كان يرفعها ، و إلتفت إلى زوجته و قد إبتسم إبتسامة عريضة
الشيخ النجار ... أتذكرين !
إبتسمت بدورها و نظرت فى الأرض و قد تحول وجهها للون للأحمر
إلتفت اليه الشاب الأزهرى مرة اخرى و قال ببعض الجدية
- أتعرفه ؟
إبتسم و هو لا يزال ينظر لزوجته
- لولا الشيخ النجار ما كنت تزوجت ..
بدا التعجب على الشيخ الشاب و هز رأسه كأنه لم يفهم العلاقة
- نعم ، لولا الشيخ النجار ما كنت تزوجت
- تدخلت المرأة ، و قالت
- إختلف أبى مع زوجى ( منصور ) ... و كان الوقت ضيق .. و كنا فى مأزق .. أبى لا يريد أدنى تنازل ، لأنى إبنته الكبرى .. و لم نكن قادرين على كل الشروط
- و الله يا عم الشيخ ، لقد ترك بيته و جاء و ظل بينى و بين أبيها .. يفعل ما يحسن فعله
تعب كثيرا هذا اليوم ، و إرتفعت الأصوات لوقت متأخر سمعها كل اهل القرية
- أردفت زوجته : حتى أبى شعر بالحرج من متطلباته و أعتذر و قال إنه يحبنى و لا يريد أن يكون السبب فى ظلمى
- يا مولانا حتى هذا المحل ... ساعدني فيه حتى أصبح كذلك ، لقد عم خيره الجميع .. هذا الملعب هناك كادت ان تقوم فتنة بين أهل القرية بسبب إزعاج الأطفال ، أخذ معه الأطفال و أرشدهم للصواب ، حتى فتحى هذا - و أشار بيده الى محل مجاور للمسجد ، عليه لافتة نصفها مغطى تحت شجرة خضراء كثيفة الأوراق عريضة الساق ، و تبرز عبر الأغصان الكثيفة من اللافتة كلمة ... عبد الملك
- لولا صحبته للشيخ النجار لظل فى ضلاله القديم
و قهقه ضاحكاً
و نادى بصوت مرتفع ، و هو يضحك
- يا شيخ فتحى ، يا شيخ فتحى
رفع الأخير وجهه غاضباً
- مولانا ... بيسأل عن الشيخ النجار
تحول وجهه من الغضب إلى السكينة الشديدة و إرتاحت ملامحه تماما ، و ظهرت فى عينيه لمعة و ألقى ما فى يده على الأرض ، و خرج بخطوات واسعة
- الشيخ النجار ... يا الله
إتفضل يا مولانا ، اتفضل ، و سحب له كرسى قوائمه من خشب بنى عريض
- سمعت أنك صحبت الشيخ النجار ، و أنك إستفدت من علومه
قاطعه فتحى
- إستفدت من علومه !
يا مولانا لولا الشيخ النجار لكنت الأن فى الجحيم ، أو فى السجن ، لقد غير حياتى كلها
ظهر الإنبهار على الشيخ ، انفتح فمه ثم ابتلع ريقه
و صمت و أنصت بإهتمام
- كنت معظم الوقت بالشارع لا أفعل شيئاً - على جانب الترعة ، أتمشى فى الطرقات بجوار منازل النساء وقت الظهيرة ، رآنى و هو فى ساحة أحد تلك البيوت ، كان يتواجد فى الخارج ، حتى يأتى الزوج أو أى رجل ، لمحنى أسترق النظر داخل البيوت .. لازلت أتذكر نظرته ، كان وجهه جامداً
و ينظر لى نظرة غضب مكتوم لا يظهر على ملامحه ... و لكن شعرت به ، إستوقفنى بعدها يوما و قال لى بحزم : تعال معى
لا أعرف لما ذهبت معه ، أخذنى و لم يبخل على بشىء أخذنى معه فى كل مكان ، تعلمت منه الكثير
كان يشركنى فى طعامه .... رحمة الله عليه
تعلمت منه كل شىء .. حتى أصبحت هكذا
- إعتدل الشيخ الشاب فى جلسته : هل كان له حلقات علم فى المسجد ، هل كان له أذكار و أوراد
- حك فتحى رأسه : كان يذهب للمسجد فى العشاء و قبل طلوع الشمس ... و كان دائماً و هو جالس
يقول ... اللهم صلى على كامل النور .. اللهم صل على ذى الخلق العظيم .. تقريبا
أتعرف حتى مشايخ المسجد ، تشاجروا فيما بينهم فى طعام رمضان .. و هو الذى تبرع و أخذ فقط أقل القليل و عمل كل هذا ، و أشار إلى منضدة يصل عرضها لمترين و يزيد طولها عن خمسة أمتار
تخيل ... صنعها وحده !!
أنظر لهذا الخشب .. انظر إلى إتقان التدوير و التعشيق
ثم أشار إلى ماكينة طويلة بها حدود معدنية بارزة
- بالرغم من كل هذه الماكينات لا يمكنني صنع مثل هذه المنضدة ، ولا غرفة نوم منصور و زوجته - لقد ظل يعمل وحده أربع ساعات متواصلة حتى أنهاها بجودة معلم
ارتفع صوت الأذان ، نظر حوله لم يجد أى سجادة صلاة ، فهم الشيخ بالقيام و نظر له قائلا :
- لن تأتى ... لصلاة الظهر ؟
إبتسم ( فتحى ) فى خجل
- أتعرف لقد حلمت به كثيرا ، و كنت أراه دائما واقفاً بالأعلى فوق سلالم المسجد ، و أنا ممسك بيده .
( تمت )
مصطفى علاء بركات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق