الاثنين، 9 ديسمبر 2024

عِشْقُ الحَيَاةِ بقلم فؤاد زاديكي

عِشْقُ الحَيَاةِ

بقلم: فؤاد زاديكي

الحَياةُ، تِلْكَ الرِّحْلَةُ المُعَقَّدَةُ المَدْهِشَةُ، الَّتِي نَعِيشُهَا بَيْنَ لَحْظَةٍ وَ أُخْرَى، تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا أَسْرَارًا وَ آمَالًا لَا حَدَّ لَهَا. هِيَ مَسْرَحٌ كَوْنِيٌّ بَدِيعٌ، تَمْثِيلِيَّةٌ عَظِيمَةٌ لَا يَمْلِكُنَا سِوَى دَوْرِنَا فِيهَا، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مُمَثِّلٌ، وَ لِكُلٍّ مَنَّا دَوْرُهُ الخَاصُّ، الَّذِي لَا يُعَوَّضُ وَ لَا يَتِكَرَّرُ. وَ عِشْقُ الحَياةِ، الَّذِي هُوَ أَبْعَدُ مِنْ مُجَرَّدِ حُبٍّ عَابِرٍ أَوْ نَزْوَةٍ، هُوَ التَّقْدِيرُ العَمِيقُ لِهَذَا المَسْرَحِ بِكُلِّ مَا يَحْوِيهِ مِنْ مُتَنَاقِضَاتٍ. إِنَّهَا رَقْصَاتُ الزَّمَانِ، الَّتِي تَتَجَدَّدُ، وَ النَّغْمَاتُ، الَّتِي تَنْبِضُ فِي الصُّدُورِ، تَذْكِيرًا لَنَا بِضَرُورَةِ العَيْشِ بِصِدْقٍ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ.

لَكِنْ، مَا هُوَ العِشْقُ فِي جَوْهَرِهِ؟ أَهُوَ مُجَرَّدُ كَلِمَاتٍ تَلُوكُهَا الأَلْسُنُ؟ أَمْ هُوَ تَأْكِيدٌ عَلَى حَقِيقَةٍ نَعِيشُهَا عِندَمَا نَحْتَرِمُ الحَياةَ وَ نُقَدِّرُهَا؟ الحَياةُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَنَقُّلٍ بَيْنَ الأَوقَاتِ، بَلْ هِيَ مَرْآةٌ تَعْكِسُ جَوْهَرَ الإِنْسَانِ، وَ تَدْفَعُهُ إِلَى مُوَاجَهَةِ نَفْسِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ. هِيَ اخْتِبَارٌ مُتَواصِلٌ لَا يَتَوَقَّفُ؛ فَكُلُّ لَحْظَةٍ هِيَ اَمْتِحَانٌ لِلْمَشَاعِرِ وَ الأَفْكَارِ، بَلْ إِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَحَدِّدُ مَدَى قُدْرَتِنَا عَلَى الوُجُودِ فِي هَذَا الكَوْنِ الغَرِيبِ.

إِذَا كَانَتِ الحَياةُ هِيَ المَسْرَحُ، فَهَلْ نَعْرِفُ كَيْفَ نَكُونُ عَلَى خَشَبَتِهِ؟ هَلْ نَعْرِفُ كَيْفَ نَرْكَبُ أَمْوَاجَهَا المُتَقَلِّبَةَ بِحَنَكَةٍ وَ بِرَاعَةٍ؟ الأَقْدَارُ الَّتِي تَأْتِي كَمَا الأَمْوَاجِ فِي بَحْرٍ مُتَلَاطِمٍ، تَحْمِلُ لَنَا أَحْيَانًا خَيْرَاتٍ وَ نَعِيمًا، وَ أَحْيَانًا أُخْرَى تَأْخُذُنَا إِلَى أَعْمَاقِ الأَلَمِ وَ الضَّيَاعِ. وَ مَعَ ذَٰلِكَ، يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْتَفِلَ بِالحَياةِ فِي كُلِّ حَالَاتِهَا، وَ أَنْ نُحِبَّهَا فِي أَوْجِ فَرَحِهَا وَ أَعْمَاقِ حُزْنِهَا. فَالحَياةُ، بِمُفَارَقَاتِهَا، تَعَلِّمُنَا دَرْسًا عَظِيمًا: لَا بُدَّ لَنَا مِنْ أَنْ نَرَى فِي كُلِّ حَدَثٍ، مَهْمَا كَانَ، نُقْطَةَ ضَوْءِ جَدِيدَةً.

الإِنْسَانُ الَّذِي يَعْشِقُ الحَياةَ هُوَ الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرَى الأَمَلَ فِي أَصْعَبِ اللَّحَظَاتِ، وَ أَنْ يُقَاوِمَ اليَأْسَ عِندَمَا تُغْلِقُ أَبْوَابَ الآفَاقِ. وَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى التَّعَامُلِ مَعَ كُلِّ المُتَغَيِّرَاتِ الَّتِي تَطْرَأُ، فَهِيَ جُزْءٌ مِنَ اللَّوْحَةِ الكَوْنِيَّةِ الَّتِي تُشَكِّلُ الوُجُودَ. فِي أَحْيَانٍ كَثِيرَةٍ، تَتَبَدَّلُ الأُمُورُ مِنْ لَحْظَةٍ إِلَى أُخْرَى، وَ تُغْلِقُ أَمَامَنَا الطُّرُقَ الَّتِي اعْتَقَدْنَا أَنَّنَا نَعْرِفُهَا جَيِّدًا. هُنَا يَظْهَرُ مَعْنَى العِشْقِ الحَقِيقِيِّ: أَنْ نُحِبَّ الحَياةَ كَمَا هِيَ، بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ تَقَلُّبَاتٍ، وَ نَقْبَلُ بِهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ رَفِيقَةَ دَرْبِنَا الوَحِيدَةَ.

عَلَيْنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ كَيْفَ نُحْيِي كُلَّ لَحْظَةٍ عَلَى خَشَبَةِ مَسْرَحِ الحَياةِ. لَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ سَهْلًا، وَ لَكِنَّ مَا يُمَيِّزُ العَاشِقَ هُوَ قُدْرَتُهُ عَلَى الاسْتِمْرَارِ رَغْمَ الظُّرُوفِ الصَّعْبَةِ. نَعِيشُ لَحَظَاتِ الفَرَحِ وَ نُقَدِّرُهَا، وَ نَتَعَلَّمُ مِنْ سَاعَاتِ الحُزْنِ لِنَكُونَ أَكْثَرَ حِكْمَةً وَ صَبْرًا. إِذَا كَانَ لِكُلِّ يَوْمٍ طَعْمٌ خَاصٌّ، فَلْنَنظُرْ إِلَيْهِ كَهَدِيَّةٍ، حَتَّى إِنْ جَاءَتِ الأَيَّامُ أَحْيَانًا مَحْمُولَةً بِالهُمُومِ. فَإِنَّ الحَياةَ الَّتِي تَعْبُرُ بِنَا، هِيَ الَّتِي تَصْقُلُنَا وَ تُعَلِّمُنَا كَيْفَ نُصِيرُ أَأَكْثَرَ نُضْجًا وَ قُوَّةً.

إِنَّ الحَياةَ لَيْسَتْ سَهْلَةً، وَ لَكِنَّها جَمِيلَةٌ، وَ هَذِهِ الجَمَالِيَّاتُ تَكُونُ أَكْثَرَ وُضُوحًا عِندَمَا نَتَعَامَلُ مَعَهَا بِصِدْقٍ. أَنْ نُحِبَّ الحَياةَ يَعْنِي أَنْ نَعْشَقَ التَّجْرِبَةَ بِكُلِّ مَا تَحْمِلُهُ، وَ أَنْ نَحْتَرِمَ كُلَّ مَا يُنْتِجُهَا مِنْ وَاقِعٍ، سَوَاءٌ كَانَ سُرُورًا أَمْ أَلَمًا. وَ أَخِيرًا، لَنْ تَكْمُلَ الحَياةُ إِلَّا إِذَا عَشِقْنَاهَا بِصِدْقٍ، وَ فَهِمْنَا أَنَّهَا مَسْرَحٌ يَعْرِضُ لَنَا كُلَّ شَيْءٍ، وَ أَنَّنَا جُزْءٌ مِنْ هَذَا العَرْضِ البَدِيعِ، الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ.

المانيا في ٤ ديسمبر ٢٤




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

‏بنك القلوب بقلم ليلا حيدر

‏بنك القلوب بقلمي ليلا حيدر  ‏رحت بنك القلوب اشتري قلب ‏بدل قلبي المصاب  ‏من الصدمات ولما وصلت على المستشفى  ‏رحت الاستعلامات ‏عطوني ورقة أم...