بقلمِ فؤاد زاديكِي
يَتَجَلَّى الضَّياعُ في أبهى صورِه عِندَما يَنسلِخُ الإنسانُ عن واقِعِه، ليَغوصَ في عالَمٍ منَ الأوهامِ، التي تُقيِّدُ عقلَه و تَسجُنُ رُوحَه في أغلالِ الخَيالِ المُضلِّلِ. إنَّه انسِحابٌ بَطيءٌ و مُدمِّرٌ مِن الحياةِ الحقيقيةِ إلى ظلماتِ الوَهمِ، حيثُ تَذوي المشاعرُ و تَضيعُ الأحلامُ في متاهاتِ الفِكرِ المَريضِ.
حينَ يُصابُ الإنسانُ بهذهِ الحالةِ، يفقِدُ وعيَه و إدراكَه لما يَدورُ حَولَه، فيَصيرُ سَجينًا في زِنزانةٍ لا تُرى، تحُوطُها هَواجِسُه المُضطَربةُ و أفكارُه المُشتَّتةُ. إنَّه عالَمٌ يَفتَقرُ إلى الحَقِيقَةِ، يَعيشُ فيه المرءُ مُجرَّدَ ظِلٍّ لذاتهِ، لا يَعرِفُ للحياةِ معنًى، و لا يُدرِكُ مِنها إلَّا ما تَصوِّرهُ له أوهامُه المُضلِّلةُ.
و ما يُعزِّزُ هذا السُّقوطَ في أَوحالِ الخَيالِ المَريضِ هو انغِلاقُ الفِكرِ على ذاتهِ، و استِسلامُ الإنسانِ لتيَّاراتِ الأحلامِ الكاذِبَةِ، التي تَصنَعُ لهُ واقعًا بَديلاً يَبعُدُ كُلَّ البُعدِ عنِ الحقيقةِ. فيَفقِدُ القُدرةَ على التمييزِ بينَ ما هوَ حقيقيٌّ و ما هوَ وَهمٌ، و يُصبِحُ أسيرًا لِما نَسَجَه عقلُه من صُوَرٍ خادِعَةٍ و أمانٍ زائِفَةٍ.
و في ظِلِّ هذا الاغتِرابِ الذاتيِّ، تَذوِي روحُ الإنسانِ، فيُصبِحُ عاجِزًا عن مُواكَبَةِ الحياةِ، غيرَ مُدرِكٍ لمُعاناتِه، غافِلًا عن مآلِهِ المُظلِمِ. فَمن أَسَرَتهُ الأوهامُ و انخَدَعَ بالأحلامِ الكاذِبَةِ، لا يُمكِنُه أن يُدرِكَ النُّورَ، و لا أن يَسيرَ في طُرُقِ الحقيقةِ، بل يَبقى يَتَخَبَّطُ في ظَلامٍ دامِسٍ، يُردِّدُ صَدى أفكارِه المُنهَكَةِ دونَ أن يَصِلَ إلى شَاطِئِ الوَعيِ و الصَّحوَةِ.
إنَّ الحَياةَ بِكُلِّ قَساوَتِها و ألمِها أفضَلُ ألفَ مَرَّةٍ مِن الغَرقِ في بَحرِ الأوهامِ. فالهُروبُ مِن الوَاقِعِ لا يَصنَعُ سِوَى مَزيدٍ مِن الألمِ، و المُواجَهَةُ وَحدَها تَجعَلُ الإنسانَ يَعرِفُ مَعنَى الوُجودِ و يَفهَمُ حَقِيقَةَ نَفسِهِ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق