الاثنين، 21 يوليو 2025

الفرصة الثانية بقلم ماهر اللطيف

 الفرصة الثانية


بقلم: ماهر اللطيف


لا أعلم إن كنتُ محقةً فيما أقدمت عليه منذ سنوات، أم مخطئة؟ وفيةً لوطني أم متنكرةً لحبي؟ صادقةً مع نفسي أم مخادعةً لمشاعري؟


المهم أني ارتحت نفسيًا، أنقذتُ وطني، وتشجعت، ولم ألتزم الصمت مثل بقية زميلاتي وزملائي.


نزلتُ إلى ساحة الوغى "عاريةَ الصدر" كما نقول، مجردةً من كل سلاح وعتاد، سوى حب الله وهذا التراب، وقوة إيماني وتوكلي على الواحد الأحد، تفعيلاً لمقولة: "الساكت عن الحق شيطان أخرس".


فرغم وقوفه أمامي الآن، جاثيًا على ركبتيه، مستجديًا، باكيًا، متذللاً، طالبًا الصفح والعفو ،ومني أن أمنحه فرصةً ثانية ليثبت وطنيته وولاءه لهذه الرقعة الجغرافية، وحبه لي...

إلا أن شريط أحداث ذلك اليوم مرّ أمامي، واستقر في عقلي وقلبي، جثم عليهما، ورفضتُ الخوض في أي موضوع مع هذا الخائن،

رغم حبي الشديد له... إلى حدّ اللحظة.

لكن، "حب الوطن من الإيمان"، والوطن خط أحمر.


 فقد عاد كريم من المهجر بعد أن أتم دراسته العليا، متحصلًا على أعلى الشهادات العلمية. اجتاز مناظرة مثل بقية المترشحين، وكان الأول على دفعته. وقع قبوله في مؤسستنا العمومية الحساسة، التي تُعنى بالبرمجيات وغيرها من الملفات الأمنية السرية المرتبطة بأمن الدولة.


شيئًا فشيئًا، ذاع صيته، وتدرج في سُلَّم الترقيات، وتولى المهام والمناصب تباعًا، حتى أصبح مديرًا عامًا، يشهد له القاصي والداني بالمهارة والحرفية، والقدرة على دفع المؤسسة قُدمًا بسهولة في زمن الرداءة.


تعرفتُ إليه حالَ انتدابه، فأعجب بي وأعجبتُ به. تطورت علاقتنا سريعًا إلى أن أصبحت حبًا جنونيًا، خاصةً بعد أن صرتُ مستشارةً من مستشاريه المقربين. لم نعد نفترق إلا وقت النوم، إذ كنا نتواصل عبر الإنترنت إلى ساعات متأخرة من الليل.


لكن، بعد مدة، بدأت ألاحظ تصرفات غريبة ومقلقة تبعث على الشك والريبة.

تارةً، يكون برفقتي في وضع رومانسي مشهود، فينتفض فجأة ويجري مبتعدًا، متواريًا عن الأنظار.

وتارةً، يتفحص وثائق ومستندات يُخفيها بسرعة مذهلة حال دخولي عليه، ولا يسمح لي بالاطلاع عليها، متعللًا بالأعذار الواهية.

وطورا ،يُصرّ على البقاء وحيدًا في مكتبه بعد الدوام، بحجة تكدّس الأوراق التي تتطلب دراستها، وتُضاف إلى ذلك تصرفات أخرى لا تُعدّ.


صرتُ حذرة، متأهبة لتقبل أي صدمة محتملة، وكنت أظن أنه يخونني مع أخرى. باتت شكوكي تتزايد، وصار من العسير علي تصديق أي كلمة أو تصرف منه، حتى وإن حمل مشاعر جياشة.


يوما بعد يوم، ازدادت شكوكي – وشكوك الجميع – حتى صارت يقينًا.

رأيت وجوهًا غريبة تتردد على مكتبه بصفة متكررة، ومكالمات هاتفية لا يُسمع منها غير صياحه وعباراته المريبة، دائمًا يختمها بـ: "الأمر والطاعة... على العين والرأس."


قررت المواجهة. لجأت إليه، وطلبت تفسيرًا لما يجري، حتى لا يُجهَز على حبّنا.

طمأنني كعادته، وطلب أن أثق به. وعدني بالإخلاص، فقلت له:

- إياك أن تغدر بي، لن أرحمك، والله.


فأجاب مقاطعًا وضاحكًا بضحكته الصفراوية:

- من يقدر أن يخون هذا الجمال والدلال، وهذه الفخامة؟


قلت وقد كاد كلامه يُضعفني:

- حذارِ يا كريم... إني أشتم رائحةً كريهة...


واستمر الجدل بيننا. كنتُ أحذّره، وكان يُراوغ بأساليبه الخبيثة. أتهرّب منه، فيُمسكني من يدي...

حتى إذا بالباب يُقتحم بعنف، من طرف قوات الأمن (الفرقة المختصة: "أمن الدولة").

صاحوا بأعلى صوت:

"انبطحوا أرضًا وأيديكم فوق رؤوسكم، في الحال... لا نقاش، لا كلام!"


نفذنا الأوامر، وقلبي يخفق بجنون، جسدي يرتعش، وجهي يتصبب عرقًا، أنفاسي تتلاحق...


قيّدوا كريم بالأصفاد، وانهال عليه أحدهم ركلاً على جنبه الأيسر، صارخًا باحتقار:

- "يا خائن! لعنة الله عليك وعلى من وظفك لتبيع وطنك، أسراره، برامجه، خصوصياته..."


وقال لي آخر:

- "وأنتِ يا بديعة، ستحاسَبين. أنتِ شريكته في المؤامرة. نحن نعلم كل شيء عنكما، وعن أسركما، وعن كل من تعامل معكما. خسئتِ أيتها الخائنة!"


لم أفهم شيئًا سوى أنهم من الاستخبارات، وأن كريم كان عميلًا لدولة أجنبية، جنّدته للعمل ضد وطنه، ومكّنها مما طلبت مرارًا، إلى أن تمّ ضبطه متلبسًا، بعد زرع كاميرات تجسس دقيقة في مكتبه.


اقتادونا إلى وجهة مجهولة لاستنطاقنا.

وبعد أيام، ثبتت براءتي، فتم الإفراج عني، وعدتُ إلى عملي وحياتي الطبيعية وكأن شيئًا لم يكن.


أما كريم، فقد أُحيل إلى محكمة أمن الدولة، حيث اعترف بكل التهم، وكشف عن تفاصيل مهماته القذرة، وبقية أفراد العصابة المزروعين في المؤسسات العمومية والخاصة.


وها هو الآن أمامي بعد أكثر عقدين من الزمن...

هزله السجن، تقوّس ظهره، خفت بصره، تساقط شعره، سقطت أسنانه، وارتخت قواه،

يطلب الصفح، يتودد، يعتذر...


هيهات...


فقد هدمتَ كل شيء، رغم تحذيراتي المتكررة.

أسقطتَ كل بناء شيدناه - على الأقل من ناحيتي - بالعرق والكلم الطيب والشعور الصادق.


وفي النهاية، جعلتني مجرمة، مطاردة، يلوك اسمي الإعلام والتواصل الاجتماعي، أضحوكة في أفواه الناس.

خسرتُ كل شيء تقريبًا، بقيتُ عانسًا عالقةً في وحل التهم،

والآن، تطلب مني أن أصفح عنك... وأن أمنحك فرصة ثانية؟!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

لِلَّهِ لَحْظُكِ ما أَشَدَّ لَو أَدْرَكَتْ بقلم جمال أسكندر

قصيدة (لِلَّهِ لَحْظُكِ ما أَشَدَّ لَو أَدْرَكَتْ)  بقلم / جمال أسكندر    يَا خَالِقِي إِنَّ عُرَى الهُمُومِ تَمَكَّنَتْ     سَلَّمْتُ أَمْر...