الخميس، 18 ديسمبر 2025

جيرة محبّذة بقلم ماهر اللطيف

جيرة محبّذة
بقلم: ماهر اللطيف 🇹🇳 

صليتُ العصرَ في مسجد الحي جماعةً، ثم اتجهتُ – كعادتي منذ سنوات – إلى مكاني المفضّل حتى أذان المغرب. جلستُ القرفصاء، فانهمرت دموعي لتسقي الأرض كما اعتادت، وانعزلتُ عن العالم، لم أعد أكترث بأحدٍ أو بأيّ شيءٍ يدور حولي. غبتُ عن الدنيا وانطلقتُ في سردِ أحداثي اليومية بصوتٍ مرتفع؛ أقصّ ما حدث لي من خيرٍ وشرّ، دون تردّد أو زيادةٍ أو نقصان.

بقيتُ أشكو همومي، أعبّر عن مشاعري، أنقل نواياي ومخططاتي وانتظاراتي، ألعن القدرَ والظروفَ التي أدارت لي ظهرها، وأبكي حظي وقلة حيلتي... ولكن لا من مجيب، كالعادة.
لماذا يا ترى؟
لماذا تسمعين مني كل شيء منذ سنوات ولا تُعرينني أيَّ اهتمام؟ بل لا تعبئين بي جملةً وتفصيلاً، رغم ما أقوم به من أجلكِ وما أُضحي به في سبيلكِ...

شعرتُ بيدٍ تلمس كتفي الأيسر كالعادة، وبوقعِ حذاءٍ مهترئٍ يحرث الأرضَ قربِي، وصوتِ الحارس يكاد يهمس في أذني بنبرته الحزينة المعتادة:

– انهض يا أستاذ مخلص، صوتُ الحق يخترق صوامعَ المساجد والجوامع.

– (بعد مسح الدموع ومحاولة استرجاع التوازن) جزاكَ الله خيرًا أيها النبيل... يا سيّد نبيل.

– (مربّتًا على كتفي بلين) لا شكر على واجب. رحم الله زوجتكَ، وأسكنها الفردوس الأعلى من الجنة.

– (مقاطعًا بشدّة) لا تقل هذا الكلام! نهى لم تمت، هي نائمة... تستفيق كلما أزورها وأُخبرها بكل صغيرةٍ وكبيرة. أُطلعها على كل شيء. هي حياتي.

ينحني نبيل، يُقبّلني في جبيني، يساعدني على القيام، يرافقني إلى باب المقبرة، يرجو لي بقيةَ يومٍ هانئة، ثم يعود إلى بيته المتواضع بين القبور والأموات.

أمّا أنا، فأسلك طريق العودة إلى المسجد، مستحضرًا – كعادتي – ذكرى أول لقاءٍ لي مع نهى، يومَ قدِمت إلى منزلنا برفقة أختي علياء – رحمها الله – لتراجعا دروسهما الجامعية. تشابكت العيون، دقّت القلوب، تبادلنا الإعجابَ في لمح البصر، ثم جاءت الصداقة، فالزواج.

عشنا أجملَ أيامِ حياتنا حتى حملتْ بتوأمٍ طالما انتظرنا قدومهما. جهّزنا كل شيءٍ من أجلهما، اقتنينا لهما اللوازم والأثاث واللعب، واخترنا لهما اسمَي ناصر ومنصور. نحتُّ بخطّي اسمَيهما على لوحتين زيتيتين ووضعتهما في بيتهما الذي اخترناه معًا، عنايةً بكل صغيرةٍ وكبيرة فيه.

لكن... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. أنهكها الحمل ونال من جسدها حتى حملتُها على جناح السرعة إلى المشفى، حيث مكثت أكثر من شهر. تحسّنت قليلًا، ففرحنا، وواصلنا الحلم والتخطيط للمستقبل.

وفي ليلةٍ لن تُمحى من ذاكرتي، أتاني الخبرُ الصاعقة حين اتصل بي المستشفى يستدعيني على عجل. هناك صُعقت بخبر وفاة نهى... لا، لا! بل نومها المؤقّت، في انتظار استكمال قصتنا التي وُئدت وهي رضيعة.

توضأتُ، ودخلت المسجد، صليتُ المغربَ وعقلي وقلبي ما زالا في المقبرة. انهمرت دموعي كعادتها حتى خرجتُ مع بقية المصلّين.

عدتُ مسرعًا نحو المقبرة، حيث مكثتُ إلى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل. لم أشعر بجوعٍ أو عطش، ولا بتغلغل الأمراض في جسدي الذي وهنَ حتى بات قابَ قوسين أو أدنى من مجاورة نهى، والنوم إلى جانبها، بعد أن نمتُ طويلًا وحدي ولم أجد راحةً ولا سكينةً في غيابها.

فهل سأجدُهما حقًا حين أجاورُها... عما قريب؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

مرافئ الذكريات بقلم أسماء جمعة الطائي

مرافئ الذكريات  ***************** ما زلت أبحث عنك في طيات الوداع   وفي همسات عام الغياب  ستعلمك الأيام من أنا …. أنا التي طوت حزنها وبنت فوق...