نقد وتحقيق : د/علوي القاضي.
... وصلا بما سبق واستكمالا لوصايا وحكم الإمام (علي بن أبي طالب) ، فحينما سئل رضي الله عنه وكرم الله وجهه عن ، (العلم أفضل أم المال ؟!) ، قال العلم أفضل من المال ، فقيل له وبأي دليل ، قال لأن العلم ميراث الأنبياء ، وأما المال فميراث هامان وقارون وفرعون ، والمال إذا تصرفت فيه ينقص ، والعلم إذا تصرفت فيه يزيد ، صدق الله العظيم إذ يقول في كتابه الكريم (وقل رب زدني علما)
... وللعلم علاقة وثيقة بالفن فكل منهما مرٱة للٱخر ولهما دور بارز في تنمية المجتمعات وتطورها
... يقول (تولستوي) في كتابه (ماذا علينا أن نفعل) ، أن العلم والفن ضروريان للناس ، مثل الطعام والشراب واللباس ، بل أنهما أكثر أهمية منها ، لكنهما مهمان ، ليس لأننا قررنا أن مانسميه علماً وفناً ضروريان لحياتنا فحسب ، بل لأنهما حقاً ضروريان للناس ، ويقول أيضاً : لكن الفرق هنا هو أن غذاء الجسد مهما كان نوعه ، لايحدث فروقات كبيرة ، فالخبز والماء يمكن أن يؤكلا ، رغم أنهما ليسا لذيذين ، لكن غذاء الأرواح يمكن أن يحدث فروقات هائلة
... وبالمقاربة ومع التماهي مع رأي (تولستوي) ، فحينما يكون الفن هادفا ويؤدي رسالته التوعوية على أكمل وجه ، فإنه يناقش القضايا التي تخدم المجتمع وتساعد على الإرتقاء بالسلوك والأخلاق العامة والخاصة ويضع الحلول المناسبة لها ويحفز المشاهد على المشاركة
... وعندما يكون المؤلف والمخرج والممثلون عظاما ، فإن أعمالهم تحفر طريقها في ذاكرة المجتمع
... من المسلسلات التى شاهدتها وحفرت في ذاكرتى هو مسلسل (رحلة السيد أبو العلا البشري) إنتاج سنة ١٩٨٦ ، إعتبرناه تحفة فنية ، لأنه يقدم ملحمة إنسانية راقية من خلال مواقف درامية ، لتبرز قيم وأخلاق وثقافة مجتمعية ، وأبرز نقطة فيه هو الصراع بين الضمير والمصلحة
... هذا العمل الدرامي يقدم محتوي إجتماعي ، عكس في حينه حال الطبقة المصرية المتوسطة ، وعلاقات أفراد الأسرة الواحدة فيما بينهم
... قصته ببساطة تتلخص في شخصية (السيد أبو العلا البشري) ، الذي يتميز بالقيم والأخلاق الحميدة ، فبعد بلوغه سن المعاش ، قرر أن يفرغ حياته في خدمة أقاربه ومساعدتهم
... ويعد المسلسل من أيقونات الدراما المصرية والعربية ، فهو عمل متميز يحمل رائحه مصر وصورتها ، ويحمل أهم القضايا الفلسفية وهي (الأخلاق بين الحلم والواقع)
... في المسلسل ، يحاول (أبو العلا) إصلاح الواقع الأسري والمجتمعي ، لكنه يفشل في محاولات كثيرة ، وفي مشهد من أروع المشاهد ، وفي لحظة من لحظات ضعف أبو العلا ، يشك في مبادئه ، بسبب فشله في زرعها في واقعه ، ويلقي بالكتب (مصدر علمه وثقافته) علي الارض
... وتلخص كلمات التتر مضمون المسلسل وفكرته ، فتقول أغنية المقدمة (ماتمنعوش الصادقين عن صدقهم ، ولاتحرموش العاشقين من عشقهم ، كل اللي عايشين للبشر من حقهم ، يقفوا ويتكملوا ، يمشوا ويتكعبلوا ، ويتوهوا أو يوصلوا ، وإذا كنا مش قادرين نكون زيهم ، نتأمل الأحوال ، ونوزن الأفعال ، يمكن إذا صدقنا نمشي في صفهم ، الدنيا مالها والا إحنا مالنا ، والا الزمان نسانا ، إيه جرى لنا ، بقينا نحبس في الصدور سؤالنا ، ونحسد الصادق على صدقه ، ونقف بين العاشق وبين عشقه ، نهرب من الصافيين إذا بكيوا ، ونحسد الباكيين إذا ضحكوا ، ماتمنعوش الصادقين عن صدقهم ، ولا تحرموش العاشقين من عشقهم ، وإذا كنا مش قادرين نكون زيهم نتأمل الأحوال ، وندرس الأفعال ، يمكن إذا صدقنا نمشي في صفهم !)
... لذلك يعتبر من أقوى المسلسلات في الثمانينات وأغانيه لاتزال محفورة في وجدان جيل كامل حتى الٱن
... وقصة المسلسل تحكي عن الفارس (أبو العلا) ، الذي يشبه (دون كيشوت) ، الذي يحارب طواحين الهوا ، والذي يرفع شعار الأخلاق والفضيلة ، ويريد أن يطبقها على المجتمع ، رغم صعوبة الرحلة ومشاكلها الكثيرة ، لكن بعدما فشل (السيد أبو العلا) في كل محاولات إصلاح المجتمع ومجتمع أسرته الصغيرة كان هذا المشهد مع (تهامي) :
( لو كانت الكتب دي غلط ، قولي وأنا أحرقهم ! ، الكتب دي كلها غلط ، مقدمة أبن خلدون وكلامه عن العمران البشري ، غلط ! ، قولي ياتهامي ، وأنا أحرقهم ! ، يوتوبيا ، توماس مور ، حلمه بأرض الفضيلة والكمال ، لوكانت غلط قولي ، وأنا أحرق الكتب دي كلها ! ، النظرات ، والعبرات ، وحي القلم ، الجمهورية والسياسة ، الدفاع عن سقراط ، الأخلاق ، المنطق ، كل المفكرين دول غلط ! العقاد ، طه حسين ، شوبنهاور ، ڨولتير ، تولستوي ، تشيكوف ، ديكارت ، كافكا ، دوستويڨسكي ! ، لو كل المفكرين دول غلط ، قولي وأنا أحرقهم !)
... ياترى (السيد أبو العلا البشري) كان علي خطأ أم على صواب
... في بداية المسلسل (الحلقة الأولى) ، شاهدنا أنه عزل نفسه عن العالم لفترة ليقرأ ويتعلم ، ويبعد عن كل شئ ممكن أن يؤثر علي قيمه ومبادئه ، وعاد لزيارة أقاربه حينما شعر بحاجتهم له ، لكنه شعر بالصدمة من التغيير الذي حدث في سلوكهم وقيمهم وأخلاقهم وتفككهم الأسري وانشغال كل فرد بنفسه و ... و... !
... وإلى لقاء في الجزء الثالث إن قدر لنا ذلك وقدرت لنا الحياة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق