الخميس، 24 يوليو 2025

حلم ابتلعه البحر بقلم ماهر اللطيف

 حلم ابتلعه البحر


بقلم: ماهر اللطيف


ذات صباح رماديٍّ ممزوج برذاذ الذكريات، جلستُ أستعيد وجهه الغائب، ملامحه المنحوتة بالقلق، ضحكته القصيرة التي كانت تخفي أكثر مما تُظهر.


تذكّرتُ سُدى صديقي المرحوم شفيق، الذي غادرنا منذ سنوات، حين اختار أن يركب موج البحر على أمل الوصول إلى "حلم ما"...


كنا، يومها، نمرّ بمرحلة حالكة السواد. بطالة مريرة، كساد شامل، وطن يعِد كثيرًا ويعطي قليلًا، وشهادات جامعية تزيّن الجدران ولا تفتح باب رزق.


كنا نجلس على رصيف الحي، نقتسم سجائر رخيصة وكلمات كبيرة، حين قال لي، بصوته الهادئ:


— "الدنيا لم تُعطني كل شيء... لكنها منحتني ما أستحق. كلّ شيء يأتي على قدر."


قاطعته، بحدة فيها يأس أكثر منه سخرية:


— "احمد الله واشكره!"


ضحك بهدوء، وأجاب:


— "الحمد واجب... لكن دعني أقول: أحلامي، يا صاح، كثيرة، لا سقف لها. لكن ما تحقّق منها... أقلّ من القليل."


ابتسمتُ على مضض، ورددت:


— "أنت تريد، وأنا أريد، والله يفعل ما يريد."


أسند ظهره إلى الحائط، وأسدل جفنيه قليلًا كمن يغرق في تأمل عميق، ثم همس:


— "تعرف ما يؤلمني؟ أننا نحلم بما لا نملك، ونموت دون أن نعرف إن كنا نستحقه فعلًا."


كنا نغوص في الحديث كما يغوص الغريق في الماء، نُقارن بين ما نشتهي وما نملك، بين أحلامنا الهائلة، وواقعنا الضيّق ككفن.


ثم كنّا نُسلّم في النهاية لحقيقة لا نملك لها ردًّا:


> الله هو العدل المُطلق. لا يمنعنا إلا لحكمة. لا يمنح إلا لغاية.

يخلقنا كما يشاء: أجناسًا، ألوانًا، أعمارًا، أقدارًا، ويختبرنا بما قسم لنا.


كان يؤمن بذلك، أو يقنع نفسه أنه يؤمن. وكنت أصدّقه... لكنني لم أطمئن.


قال لي مرةً:


— "لو أعطى الله لكلٍّ منا ما يتمنى، فمن سيخدم من؟ من سينظف، من يبني، من يهاجر، من يموت؟ التوازن يا صاح، هو قمة العدل."


افترقنا بعد ذاك اللقاء بأيام. لم يُخبرني بنيّته، لكنه كان يهيّئ قلبه للمغادرة...

ركب "مركب الموت" مع عشرات الشبان، مزوّدًا بأمل هشّ، وخريطة حلم غربّيّة، وحديث عن الثروات، والرفاه، والكرامة.


لكنه لم يصل.


غرق القارب، واختفى شفيق.


لم يعثروا على جثته.


قالوا إن الحيتان التهمته، أو أن البحر احتفظ به لنفسه...

لكنني أعرف، في قلبي، أن شفيق ما كان يبحث عن أوروبا، بل عن معنى لحياته.


في صلاتي، في ليالي الشتاء، حين أسمع نحيب الرياح فوق السطوح، أستعيد وجهه...

كان يحلم، مثلنا جميعًا، لكنه أخطأ الطريق.


ربما كان أقرب إلى الله منّا، حين قال ذات يوم:


> "ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون."

(الأعراف: 34)


رحمك الله يا شفيق.

لقد كنتَ الحلمَ، وكنتَ الضحية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

يا .. آانت عندما أكتب إليك بقلم فاتي رضا

يا .. آانت عندما أكتب إليك  حتى قلمي يعشقك  و أوراقي تتنفسك أمّا حروفي  تولد من عينيك ... ... فاتي رضا ...