الأطفال العمال
___
قصة
من مجموعة
" العجوز الذي قال : وداعا ! "
تأليف: اديب قاسم
إصدار : دار منار برس ، بيروت _ لبنان عام 1986 م
في مدينة على شاطئ الأدرياتيك ينام الناس مبكرين وينهضون إلى أعمالهم قبل أن ينهض العصفور !
الجميع يعملون من الصباح حتى وقت متأخر عند المساء . ينطلقون إلى أعمالهم وأيدهم مطوية إلى جنوبهم كأنهم يخبئون فيها شيئا يخشون اللصوص عليه . وما أن يصلوا إلى أعمالهم حتى يضعون ذلك الشيئ الوهمي فوق السخَّان .. ليتدفأ .
يضعون ايديهم الخالية من كل شيئ !
أمَّا حين يغادرون العمل على هذه الحال ، فالأمر هنا يتغير .. يبدأ المالك بالغضب ثم يقول : " هؤلاء اللصوص يخفون شيئا " ويبدأ حارس المصنع بتفتيشهم عند البوابة التي كانت تصرخ من وقت لآخر :
" لا شيئ ! .. لا شيئ ! " .
وفي النهاية أيضا كانت تقول :
" لا شيئ " .
فالبرد شديد قارس .. والملابس .. أو الخرق الممزقة التي يلبسونها لا تكاد تصل إلى ركبهم المرتعشة ! .. ويقلدهم الأطفال ، لا كما يفعلون في بعض المدن وهم يلعبون أو يستمعون إلى حكاية الجدة .. بل يفعلون ذلك داخل المصنع نفسه ! .
فنسأل حارس المصنع : ماذا يفعل هؤلاء الأطفال هنا ! .. كيف دخلوا إلى هنا ؟ .. ما الذي جاء بهم .. وأين كنت أنت ؟؟؟! .
فيصيح في وجهك :
" مهلا يا سيدي .. مهلا . . هؤلاء الأطفال عمال ! "
وبالطبع سوف تصعق من هول الحقيقة " أطفال عمال ! ! .. وفي مثل سنهم يكون الأطفال في المدارس " .
" يا سيدي أنت في بلد .. ( الكل يطعم الواحد .. والواحد يطعم الكل ) وهذه قضية قد فرغ منها العلماء ! .. ماذا ، هل لديك طفل وتريد الحصول له على عمل ؟ " .
- " لا .. لا .. طفلي يعمل ؟! .. أنا ، أنا الذي أريد العمل " .
- " عفوا ، الأطفال أجرهم أقل .. وإن كان عمل الجميع واحد " .
- " طفلي لن يعمل !! .. ماذا أتريده أن يعمل ونحن ما زلنا نطعمه بالملعقة !! .. حتى وإن كبر فالمدرسة تنتظره .. وأقولها لك ثانية .. افتح أذنيك " طفلي لن يعمل وأنا حي أرزق " . أسمعت ؟ " .
هكذا قال مالك المصنع أيضا.. حين وجد طفله يوما - وهو بالطبع ، طفل بريء - يساعد أحد الأطفال في المصنع فيمسك من يده كير الحدادة المتسخ .. وقد امتلأ وجهه بالسخام .. وأخذ يتألم كطعة الحديد الحمراء المحماة في النار المتوهجة الشديدة اللهب ! .
وأخذ الشرر عندها يتطاير .... لا ، ليس من قطعة الحديد .. بل كان هذه المرة في وجه مالك المصنع :
" ماذا تفعل هنا ؟ "
فيقول الطفل ابن المالك وهو يضحك فقد ظن أن والده يرحب بسرعة رجولته :
- " أما تراني يا أبي ؟ إني أفعل ما يفعله الأطفال العمال . لم تخبرني في البيت أن لديك أطفال هنا ! "
وعندئذ يستدعي معاين الأنفار :
" هيا احمله إلى البيت .. ولي معه حساب هناك .. ولكن عليَّ أولاً أن أعاقب هذا العامل الكسلان الذي يدع غيره يعمل له .. ثم يأتي آخر النهار ليتقاضى الأجر عنه .
تعال أيها العامل اتبعني !! " .
وجهُ المالك في حالة يُخشى معها على الطفل المسكين ، الذي أخذ الآن يتبعه بكل ما بقي من قواه الخائفة فوق قدميه المرتعشتين ! .
يدخل .. ويغلق المكتب .
العامل الصغير .. لم يخرج ! .. حسناً ، ولكنه أيضا لم يصرخ ، فهو أخيرا قد عطف عليه ! لا شك أنه قد أدرك مبلغ صغره .. وأنه لا يحتمل قرصة النملة ! .
وفُتح الباب . عامل الأنفار .. يخرج ! فما هذا الذي يحمله بيده ؟ .. غير ممكن أن تكون هذه الخرقة هى الولد الذي دخل من هذا الباب !! ِ
" لا .. إنه هو نفسه " .
الباب لا يكذب .. بالطبع ، وقد أكد لنا هذا (انطر ! ) ، يقول الباب
انظر !؟ .
ما هذا ؟.
فيقول الباب " لقد وقع من طوله ولم يضع المالك يده عليه بعد ! .. لكنه مع هذا قال " :
" لقد وفر علينا صراخه هذا الكلب !
هيا يا عامل الأنفار ارمه خارج الباب . . وعُد إلى عملك .. قل لعامل الزبالة لا ينسى أن يأخذ هذه الزبالة .. إلى بيتها ! "
" قلت له يا سيدي المالك " .
قال عامل الأنفار حين عاد . وأخذ يباشر عمله كأن شيئا لم يحدث .
فى الطريق كانت عربة الزبالة تقرع الأبواب ، لا لتأخذ الزبالة كما نفعل في مدننا - إن كنا نفعل هذا ! ..ولكن لتسلم الزبالة إلى أهلها! .
( البكاء والصراخ .. لا أحب وصفه في قصتي هذه .. لا لأنني اكرهه فقط ! .. بل لأن الكلمات تعجز عن وصفه ! )
المهم : في اليوم التالي..
مات الطفل العامل في المستشفى ، وخرج في جنازته خمسون ألف عامل في مقدمتهم الأطفال العمال .. وحتى العمال كبار السن كانوا يسيرون في الخلف . فالمالك قد منحهم إجازة من اجازاتهم المستحقة بدون مرتَّب ! كي يشاركوا في تشييع جثمان الطفل العامل .. " الذي كان ....... " .
( لا أحب الخُطَب ، خاصة حين تكون كاذبة ، ويكفي أنه " كان طفلا " ) سأتوقف هنا .