(محطات من الذاكرة)
،، دخان البنادق ،،
في منتصف سبعينيات القرن المنصرم ، كان التلفزيون العراقي يعرض مسلسل الكاو بوي ،، دخان البنادق بطولة ،، جيمس أرنيس ،، ولأن ساعات البث والبرامج في التلفزيون آنذاك كانت محدودة جدا ، فكان أي مسلسل يعرض حينها ، يأخذ حيزا كبيرا من تفكير الناس في ذلك الزمن الجميل ، بخاصة الشباب ، بعكس التلفزيون الآن ، الذي أصابته التخمة من كثرة البرامج والأفلام والمسلسلات ، وقتها كان دخان البنادق حديث الشباب ، وأنا وأصحابي ، كنا صغارا بعمر الورد ، تتراوح أعمارنا مابين الثامنة والسابعة ، ولأن التلفزيون في بيتنا تعطل بعد ان عجز المصلح من تصليحه . ولم يستضف التلفزيون بعد في ذلك الوقت ، اغلب بيوتات المحلة ، فكنا نتحرق شوقا لمشاهدة حلقة من هذا المسلسل .
قرب بيتنا ، كانت هناك ،، گهوة ،، فيها تلفزيون ، صاحبها يدعى ، أبو صبيح ، رجل فارع الطول يرتدي ،، الدشداشة والطاقية ،، وكان ،، لأبو صبيح ،، ولد أسمه ،، حسوني ،، كان يدرس معي في المدرسة الإبتدائية ، كان ، حسوني ، يتباهى بحديثه عن المسلسل ، لم تكن علاقتي معه قوية آنذاك ، فقفزت إلى رأسي الصغير فكرة أن أتقرب إلى حسوني ، عله يسمح لي وأصدقائي بالدخول إلى ،، الگهوة ،، ومشاهدة المسلسل عن قرب ، لأن في ذلك الزمن لم يكن يسمح للصغار بالجلوس في ،، الگهاوي ،، فهي مخصصة للكبار فقط ، بعكس هذا الزمن ، الذي ترى فيه الصبيان يملئون المقاهي ، يدخنون ،، الآرگيلة ، وهم يضعون ساقا على ساق ، المهم نجحت الفكرة وفعلا تقربت وأصدقائي من حسوني ، وأصبحنا لانفترق عنه ، إلى أن أقنعناه بعد جهد جهيد ، أن يكلم أبوه ليسمح لنا بالقراءة داخل ،، الگهوة ،، صباح يوم الجمعة قبل أن تمتلأ بالزبائن ، بحجة أن عندنا امتحانات ، لأن المسلسل كان يعرض في يوم الجمعة صباحا ، نجحت الخطة بالفعل ، ووافق أبو صبيح بأن نجلس في ،، الگهوة ،، لكي نراجع دروسنا ، ولأن ، حسوني ، كان من الكسالى في المدرسة ، فقد ساعد هذا الأمر بنجاح الخطة .
أخيرا سأشاهد ،، دخان البنادق ،، عن قرب ، لم أنم ليلتها ، كنت أنتظر بزوغ الفجر ، وأنا أتقلب على الفراش ، مثل سمكة رمى بها الموج خارج الشاطىء ، وحين أتى الصباح بعد غياب طويل ، جمعت كتبي وتوجهت بحماس المقاتل ، أطرق الأبواب لأوقظ أصحابي ، الذين أتضح أنهم لم يناموا ليلتها ، توجهنا بخطى مسرعة نحو ،، الگهوة ،، لمحنا من بعيد ، أبو صبيح ، بطوله الفارع وفي يده ،، ابريق ماء ،، يرش به أرضية ، الگهوة ، الترابية ، حينها لم يكن ،، الكاشي ،، في متناول الجميع ، كان التراب هو سيد الموقف ، أخترقت أنوفنا رائحة التراب الندي ، ونحن نقترب من ، أبو صبيح ، بخطى متعثرة ، كان حسوني يقف بجواره ليساعده ، وبلسان متلكأ ، سلمنا عليه :
-شلونك عمو أبو صبيح .
- هلا بوية .
بادر حسون بالكلام سريعا :
- بوية ذولي صدقاني بالمدرسة اللي گلتلك عليهم
- هلا هلا بيكم وليداتي ، ادخلوا هناك اگعدوا على ذيچ القنفة اللي بالزاوية ، حتى تقرون براحتكم .
كانت ، الگهوة ، خالية من الزبائن لم تحتضن بعد روادها ، ركض حسوني مسرعا لأحضار كتبه ، وجلسنا على الأريكة والفرحة تغمر قلوبنا ، فقد نجحت الخطة كما أردنا ، وبدأنا بطرح الأسئلة بألحاح على ، حسوني :
- ها ، حسوني ، شوكت يبدي ، دخان البنادق ،
- مو هسه بعد، فد شوية ويبدي ، شبيكم مستعجلين
كان حسوني يتكلم بشيء من الثقة والإعتداد بالنفس ، كونه أبن صاحب ، الگهوة ، وهو صاحب الفضل في الدخول إليها ، وكنا نحاول جاهدين أن لا نزعجه ، لكن مشكلة ، حسوني ، أنه كان ،، يخن ،، وكانت لديه مشكلة مع حرف ،، الراء ،، حيث كان يلفظه بأنفه ، وكلما تراقص هذا الحرف على لسانه ، تعثر وسقط ، فلا نستطيع أن نمنع أنفسنا من الضحك ، وكلما علت أصواتنا بالضحك نهرنا ، أبو صبيح .
بدأ الرواد يتوافدون على ،، الگهوة ،، شيئا فشيئا ، كان جلهم من كبار السن ، وكلما دخل رجل ، كان ينظر إلينا باستغراب ويتساءل :
الرجل : هذولي الجهال شعدهم هنا گاعدين .
أبو صبيح : ذولي صحبان حسوني باچر عدهم امتحانات وگاعدين يقرون .
الرجل : أي عفية ولدي أقروا حتى تنجحون ،،
بدأت ، الگهوة ، تستقبل الزبائن الذين يتوافدون إليها ، فسارع ، أبو صبيح ، لكي يشغل التلفاز ، غمرت الفرحة قلوبنا ، لكننا تفاجئنا بصوت القارىء وهو يجود القرآن ، فتوجهنا إلى حسوني بالسؤال بصوت عال
- هاي شنو ، حسوني ، چا وين ، دخان البنادق ، هذا شو قرآن ، شنو عدكم فاتحة .
- هاي شبيكم هسه يبدي .
فأتانا صوت ، أبو صبيح ، من بعيد .
- بوية صوتكم شوية .
حشرنا رؤسنا بين الكتب ، وقطعنا أنفاسنا ، كيلا نواجه بالطرد ، ويذهب كل هذا المجهود الذي بذلناه هباء ،
مضت فترة قصيرة وبعد إنتهاء الفترة المخصصة لقراءة القرآن في التلفزيون ، وإذا بصوت ، أبو صبيح ، ينادينا :
- تعالو بوية باوعو على افلام كارتون .
قفزنا مثل الأيائل الصغيرة على الأريكة التي قبالة التلفاز ، كانت فارغة لم يجلس عليها أحد بعد ، نظرت إلى أصحابي وهمست لهم
- أگلكم خل نطلب چاي حتى أبو صبيح مايضوج من عدنا .
حسوني : انتم شايلين فلوس وياكم ، ترى الچاي بعشر فلوس .
كان سعر إستكان الشاي في ذلك الوقت ،، بعشرة فلوس ،، وبرغم أنني لم أكن أطيق الشاي في حينها ، لكنني دفعت العشرة فلوس مرغما .
جمعنا النقود ووضعناها بيد ، حسوني ، الذي قفز مسرعا إلى أبيه .
- بوية صحباني يريدون چاي وهاي الفلوس
- أي بوية روح صبلهم .
أحضر حسوني الشاي لنا وجلسنا بفرحة نتابع أفلام الكارتون ، بعد قليل ، انتهت فترة برامج الأطفال ، وبدأت ، الگهوة ، تغص بالزبائن ، شيبا وشبابا ، الغريب أن الأريكة التي كنا نجلس عليها ، لم يقترب أحد منها ، فبقينا متسمرين عليها ، أما، أبو صبيح ، فانشغل عنا مع بعض الرجال من أصحابه ، يتجاذبون أطراف الحديث ، إلى أن حان موعد اللقاء الذي انتظرناه طويلا ، ها هو ،، دخان البنادق،، ظهرت مقدمة المسلسل ، حيث البطل وهو يوجه مسدسه نحو رئيس العصابة ، وبسرعة البرق يرديه قتيلا ، لم نتمالك أنفسنا من الفرحة وصرخنا بصوت عال :
- هيييييييييي .
حسوني : لكم أبوي لايسمعكم .
خبأت رأسي بين صدري خوفا من أن يسمعنا أبو صبيح ، ثم رفعته بعد برهة لأتابع المسلسل ، نظرت ، لم أرى التلفاز ، وجدت ستارة بيضاء ، تملأ عيني الصغيرتين ، رفعت رأسي أكثر ، وإذا ،، أبو صبيح ،، بصوته الجهوري :
- يلله وليداتي روحو لبيوتكم هسه أمهاتكم أدور عليكم .
أحسست بوقع كلماته كالمطرقة على رأسي ، لم أتمالك نفسي وتلألأت في عيناي دمعتان ، فقد ضاع كل المجهود الذي بذلته ، وضاعت العشرة فلوس ، وبصوت متلعثم :
عمو أني بعدني مامكمل الچاي مالي .
- بوية الچاي من شوكت صبينا ألكم صار ثلج هسه ، يلله اوليداتي حبابين روحو لبيوتكم ، وانت ولك حسوني يلله گبل لامك .
إنهار كل شيء ، وخرجنا من ، الگهوة ، نجر ورائنا أذيال الخيبة ، بعد أن إمتلأت بالزبائن و انقض الشباب على الأريكة التي استولينا عليها في السابق ، ولم يعد لنا متسع أن نشاهد ، المسلسل ، حتى من بعيد . فقد غصت ، الگهوة بالزبائن .
لم تفارق هذه الحادثة مخيلتي حتى بعد أن كبرت ، وكنت أتساءل : ترى لماذا منعنا ، أبو صبيح ، وقتها من مشاهدة مسلسل ، دخان البنادق ، هل كان خبثا منه ؟ لكن أعود بذاكرتي إلى الموقف الذي سبق عرض المسلسل ، عندما نادى علينا بفرحة لكي نتابع أفلام الكارتون ، وأعود مع نفسي أتساءل : ترى من أين تعلم ، أبو صبيح ، وهو الرجل الأمي الذي لايفقه القراءة ، أن مشاهد العنف التي يعرضها التلفزيون لها تأثير سلبي على الأطفال ؟
مات أبو صبيح ،، وحضرت جنازته ، لكن الحادثة لم تفارق خيالي .
مات أبو صبيح ،، ولم يعلم أن ،، دخان البنادق ،، لم يعد مسلسلا ، فقد أصبح واقعا نعيشه ، ينام بحجرنا مثل طفل لقيط ، لانستطيع التخلص منه .
مات أبو صبيح ،، ولم يعلم أن البنادق أصبحت في متناول الصبيان ، يعبثون بها كالدمى ، ودخانها يستنشقونه كما يستنشقون الوروود الزكي،
وأعود وأتساءل مع نفسي : ترى ، لو كان ،، أبو صبيح ،، على قيد الحياة ، هل كان يقوى على منع الملايين من الأطفال ، من مشاهدة الرصاص وهو يمزق الأجساد ؟ وأنى له ذلك ؟ ومن أين نأتي بالبطل ،، جيمس آرنيس ،، الذي يتباهى بشارة الشريف ، التي يعلقها على صدره ، لكي يقضي على العصابات التي قضت مضاجعنا !
وعندما بحثت ، ولم أتلقى إجابات شافية عن اسألتي ،ولكن الكثير رحلوا بعيدا ، خوفا على صغارهم ، من أن يستنشقوا ،، دخان البنادق ،،
✍️فاخر خالد