قصة قصيرة
العنوان: نداءات الفجر السعيد
بقلمي سيدة بن جازية تونس
كل من يعرف عائشة لا يصدق أنها نبتت من رحم الفقر والحرمان فجمالها وثروتها المتنامية و صولاتها وجولاتها تشي بكونها سليلة الحسب والنسب .
ٱه. ! الزمن قادر على معالجة كل الجروح ومحو ليلي الجوع والعراء و طنين القذارة والدنس.
في ريف معلق بين الأرض والسماء بالمناطق الحدودية كانت حياتها مليئة بالمفاجٱت ما تفتأ تهادنها وعكة حتى يلاطفها القدر بابتلاء فيعاودها الاختبار ، تلك هي وتيرة حياتها لولا لطف الله.
لم تعرف من ماضيها البعيد غيرالشقاء و سط عائلة ريفية كبيرة العدد ، يأويهم كوخ تغلب عليه سيماء الوحشة و العبوس ، إذ لم يكن متسعا و لا واقيا لهم من حر الشمس أو لسع برد الشتاء ،لكن الشيء الوحيد الثابت كونه مسقط رأس العديد ومحضنتهم الأليفة التي تربطهم بهذا الوطن و تحاول تجميعهم تحت قشها القذر .
عائشة كانت البنت البكر وهبها الله من الجمال الكثير بقدها الممشوق و بياضها الناصع ، تخفي حزنا دفينا بين مقلتيها وحياء يرتسم حمرة على الوجنتين ، لكن أسمالها البالية الرثة و ساقيها الحافيتين تدوس سحر الطبيعة وكل مفاهيم الجمال ...
طباع والديها كاد يعصف بهذه الأسرة الكبيرة لما يشوبها من تناقض. فالأب يميل إلى العجز و الاستكانة و الخمول لا يعمل عقله هذا إن كان صاحب عقل و لا يشغله غير أكل وشاي و إنجاب العيال في غريزة حيوانية بحتة معتقدا مثل الديك أن الشمس لاتبزغ إلا بصياحه فجرا وأنه إن لم يصح لن ترى الأرض نورا. بينما الأم قد جمعت بين كل الصفات الحسنة فهي الجميلة الحالمة ، حادة الذكاء والفطنة إذ تحسن تقدير الأمور لولا قلة ذات اليد وسوء الطالع المقترن بأحداث ثورة الجياع و المهمشين.قد صنعت من ضعفها قوة لتحافظ على تماسك أسرتها الوفيرة ،تقسم يومها كالمعتاد بين عدة مهام منذ طلوع الشمس حتى مغيبها
إذ تباكر فجرا بإحضار عجين الفطائر وسلق بيضات دجاجاتها
لتبيعها إحدى بناتها على قارعة الطريق بعد أن تنضج. وقد اكتسبت حرفاء قارين يمدحون صنيعها...
بعدها تتوجه لتنظيف قن دجاجاتها و تخرج نعجاتها للسرح. وما إن تنتهي تلك المهمات المتتالية حتى تحمل الشوال المهترئ وتغيب بين الفجوات و الانعراجات لتحتطب و تحش الحشائش و تلتقط بعض النباتات الصالحة لتكون وجبة مؤدمة لعيالها وبعلها المغيب عن هذه الدورة الحياتية اليومية. وتنتهي الجولة لتعود مسرعة لطهي ما أمكن من طعام يقيهم بؤس الجوع ومرارة السؤال .
أين اختفت تلك الهيفاء الجميلة ؟
غدرت الأيام بالفتيات الثلاث مذ بلغن العاشرة لتنزح كل سنة واحدة بالتتالي إلى القرية المجاورة للعمل كمعينات منزليات عند بعض العائلات بأجر زهيد و عيش مرير وذل حسير .
المهم عند الأبوين أن تجد كل بنت مأوى يأويها و لقمة تكفيها و بعض المال تعود به ٱخر الشهر لهذه العائلة فيسارع الأب في التقبض على المال لتبدأ سلسلة مشاكل بينه وبين الأم. هو يفكر في سداد دين عند دكان قريب كان قد اقتنى منه السجائر و الشاي والسكر. وهي مجبرة على شراء الدقيق والزيت لصنع الفطائر وخلاص كل حساباتها مع دكان الست بهية فقد طال انتظارها وإشفاقها على الأسرة بل هي من كانت تبحث عن بيوت تشغل الفتيات لحل مشاكلهم المادية.في هذا الخضم لاحق لأحد غير الوالدين التصرف في المال ولم يعد معنى لوجود الفتيات غيرما يجدن به من مال متجاهلين مأساتهن و ذبولهن بل أن الأب يحسدهن على ترف العيش و يلمح لهن عن طرق لاختلاس بعض المؤونة أو الأدباش لإدخال الفرحة على بقية الأفراد ..
لم يشأن إخبار العائلة بسوء المعاملة والجوع والإرهاق اليومي لأن ذلك سيفسد هدوء العائلة و ربما يضطر الأب لجلدهن كما كان يفعل في السابق. ودت إحداهن أن تبوح لأمها عن بعض التحرش الذي تلاقيه من الذكور بذلك البيت
و شراسة الإناث لكن صوتا بداخلها كان يردد " لن يهتم لشكواك أحد" . بلعت لسانها لأشهر حتى طردت من ذاك البيت اللعين الذي أهدر شرفها على العتبات . لتتصل بأختيها و يقررن الهرب خلسة إلى بلد مجاور مع بعض المهربين في الشاحنات الخلفية باعتبار سكنهن في مناطق حدودية...
نجحن في تنفيذ الخطة ، وكابدن مرارة الطريق وطوله ورمضه ليصلن متعبات منهكات تحت جنح الظلام.
تسللن في الغابة لا يلوين على شيء غير توسد الحجارة والخلود إلى النوم.
بعد ساعات طوال استفقن على صوت أزيز السيارات تحاملن متاعب الطريق وقطعنه بخطى متثاقلة لكن بقلب منشرح مستشعرات طعم الحرية والنجاة من بؤس الحياة.
أول ما لاح من الأمل بصيص ضعيف. إنه دكان بسيط أسرعن نحوه لاقتناء بعض المأكل والمشرب ففتح الله باب الخير الكثير. لقد وجدن صاحب الدكان عجوزا مقعدا على كرسيه المتحرك قد خط الزمان على وجهه الأخاديد ،تبادلوا التحايا و الأحاديث فاكتشف تغير اللهجة و ثرائها و سلاستها فأدخل الأمر البهجة على العجوز وطلب مازحا يد إحداهن للزواج فوافقت مرغمة. لم تطل فترة المتاعب بالفتيات ووجدن بسرعة بديل شقائهن.
لهن بيت يأويهن ورجل يحميهن و دكان يعملن به وقد قلبوا وضعه ليصبح متعدد الاختصاصات. مهرن في صنع ضروب من الحلوى و الفطائر و الخبز والأكلات الخفيفة ونال شهرة منقطع النظير واكتسب زبائن يغدقون المال ومعسول الكلام
فلم تمر السنة الأولى إلا وقد كانت كل فتاة ببيت زوجها.
كبر مشروعهن واكتسح اسم المحل السوق وأصبحت له فروع في مناطق مجاورة وقد حمل اسم منطقتهن البسيطة..
تناقل مهربي البضائع خبر الفتيات وقصة نجاحهن فأصبحت المنطقة تعج بالتونسيين والتونسيات بشقيقتهم الجزائر وعنوة كسرت الحدود المعنوية وتوحدت المناطق وتبادلا الخبرات والمهارات والمصالح ولا زال فقط انتظار خبر توحيد الشقيقتين ليعم الرخاء لم ينسيهن الرخاء العائلة فقمن بزيارة خفيفة إلى ذاك المكان الحزين فوجدن الأسرة قد تفككت وتشتت شملها بين المدن والقرى يرعون البؤس والجوع. لعن الفكر المحدود وسياسات الدولة التي لا تستثمر في مهاراتها ولا تقاوم الفقر المعشش في الأذهان وبين الرفوف وفي كل المجالس و بين الحكام . عاودهن الحنين إلى الطفولة ولكن بإصرار لإنماء فكرة التوحيد.
كثر هم شيوخ العرب ممن التقتهم في رحلة عملها خبروها عن مساعي توحيد البلدين منذ الستينات لاعنين الاحتلال الذي فرق بين أبناء الأمة الواحدة . وجعلهم يتناحرون رغم الدم والحب والإرث الكبير.
فكرت مع المقربين منها لبعث جمعية تعاونية انطلقت سرا في البداية ثم رأت النور و الانتشار وضعت أولى المهام تبادل الخيرات لضرب مصالح المحتل ثم مساعدة المحتاجين في المناطق النائية و المنكوبة وقد كبرت الجمعية و تناسلت بين الدول المجاورة و كثرت الأنشطة و النجاحات...
لم يعد أحد بحاجة إلى الغرب ليقدم المساعدات المسمومة
و لم يعد الغرب قادرا على الصمت تجاه هذا السرطان الحميد الذي يزعزع كيانه في العالم العربي و يوحي بيقظة المغفلين. مامن شك أنهم سيغتالونها بمؤامرة تزعزع أمن الأوطان المتكاتفة.
لقد وضعوا خطة ليكون المقتول تونسيا والسلاح جزائريا و القاتل ليبيا و المحقق موريطانيا . لتنتهي دروب و تتوالد دروب أخرى ترتقي فعائشة ماتت جسدا وبقيت روحا تثأر ووراءها رجالات تزأر ...
واصلت أختاها النضال بنفس الحماس و الأمل متفائلين بغد أفضل يلم شمل المحتاجين الخاصة.
نشأت مع الزمن فئة انتهازية تخدم مصالح الغرب بكل إيمان ،خربت وانتهكت وكادت المكائد حتى أوشكت على القضاء على الأختين بنفس بشاعة كل عمليات التصفية لولا رعاية الرحمان ولطفه.
سيتواصل الحلم جيلا وراء جيل مادام في العروق دم عربي أصيل يجري ،ينسكب و يضمد الجراح
انتهت
بقلمي سيدة بن جازية