"مَآلُ الحَالِ.. عِــزَّةٌ!"
أُكْرِهَتْ عَلـىٰ النُّزوحِ هي وَ إبنُهَا إلــىٰ جُنُوبِ القَلبِ بَحثًا عنْ مكانٍ أكَثرَ أَمنًا منْ غَيرِهِ..
* زَهرَاءُ.. أُمٌّ بالعَقدِ الثَّالثِ...
* فَلذَّةُ كَبْدَهَــا " الزَّيْنُ "...
* وَ مَا تَحملُهُ جَنينٌ يُوشِكُ أنْ يَزيدَ
البَعيرَ حِمْلًا!
سَكَنتْ مُخيَّماتٍ جَمَّةً، تَحدَّتْ فيهَـا ظُروفًا قاسيَةً، مُرَّةً، عَلقَمًـا!
اِكْتسَتْ خِصالَ امرَأةٍ قياديَّةٍ، وَ أَظْهَرَتْ جَلَدًا أَمَامَ المِحَنِ، لا تِستَسلِمُ لِخَوفٍ،
وَ لا تَتَّكِئُ عَلـىٰ فِراغٍ!
أَديبَةٌ، باحثَةٌ.. تَصَدَّتْ في معظمِ كِتاباتِهَـا مُناهَضَةَ التَّمييزِ وَ الظُلمِ.
وَ لَطالَمَـا اِعتزَّتْ بِوسامِ زَوجِهَا، شَهيدُ الأَرضِ وَ العَرضِ، الحُبِّ وَ الزَّيتونِ، وَ مِمَّا شَدَّ أَزْرَهَـا أُهْزُوجَةُ فَتياتٍ تَذَكَّرتْهَا في عَزاءِ زَوجِهَــا..
( يَـا أُمَّ الزَين هِنيَالِكْ
يَـا رَيتَ أُمِّي بِدَالِكْ!)
بَيْدَ أَنَّهَـا وَاجهَتْ تَحدِّيًا آخَرَ، لَمَّـا عَلِمَتْ بِاضْطِرَابِ " الثِلاسِيميَــا " الوُراثي، وَ اِنخفاضِ الهيمُوغلُوبين في دَمِّهَــا.
كَتبَتِ الكَثيرِ عنْ طُوفانِ المَلاحِمِ،
زَيَّنَتْ مقدِّمةَ كِتابِهَا تَعريفًا بِمَدينتِهَا:
" أَقدَمُ مُدنِ التَّأريخِ، لَيستْ بِنتَ قَرنٍ منَ القُرونِ، أَو وَليدةَ عَصرٍ منَ العُصورِ، إنَّمَا هيَ بنتُ أجيالٍ جُلِّهِـمْ نَالَ شَرَفَ إِحْدَىٰ الْحُسْنَيَيْنِ.
رَفيقةُ عصُورٍ فائتَةٍ، مُنذُ سَطَّرَ التَأريخُ صَحائِفَهُ الأُولَـىٰ إلـىٰ يَومِنَـا هٰذَا.
مَلحمَةٌ دَعويَّةٌ تَجلَّتْ فيها مَعالمُ الإيمانِ، وَ ارتَسمَتْ فيها صُورُ المَنهجِ الحَقِّ، في الرِّضَا وَ الصَّبرِ وَ الثَّباتِ، في العِزَّةِ وَ الإباءِ وَ اليَقينِ..
تَجسَّدتْ فيهَا مَعاني العَقيدَةِ
وَ الإيمانِ، وَ العِبادَةِ الخَالصَةِ.
إنَّهَـا.. ذَروَةُ سَنامِ الثَّباتِ وَ الرِّبَاطِ!"
في خَضُمِّ هٰذهِ الأجْواءِ..
تَزوَّجتْ " زَهراءُ " كُفْئًا لَهَا، وَ أنجَبتْ مِنهُ شِبْلًا، تَحتَضِنُهُ.. مُرَدَّدَةً:
- مَنْ خَلَّفَ.. مَـا مَاتَ!
تَرَبَّىٰ " الزَّينُ " في حِجْــرِ أُمِّـــهِ، وَ مَا اِنْفَكَّتْ تُطْعِمُهُ إكْسيرَ الخُلُودِ. يَتأمَّلُ سَماءً وَاسعَةً، اِزَّيَّنَتْ بِالنُّجـــومِ،
وَ كُلَّمَا هَوتْ نَجمَةٌ، اعتَدلَ مَذهُولًا:
- أُنْظُرِي.. إنَّهَــا تَسقطُ!
حَدَّقَتْ إِليهِ.. غَمَزَتْهُ وَ قَالتْ:
- إنَّهَــا نَجمَةٌ سُداسيَّةٌ يَـا بُنَي!
اِبتَسمَ لِلمُزحَةِ، وَ عادَ يُدَنْدِنُ مَعَ نَفسهِ، بِصَوتٍ رجُولي، مُتَبَرِّمًا بَينَ يَديهَـا:
- لا بُدَّ أنَّ أَحدَ رِفاقي رَماهَا بِحَجرٍ!
وَ أضافَ مُسرِعًا:
- إنَّ حجارَتَنَـا لا تُخطِئُ هَدَفَهَــا!
إبنٌ بارٌّ.. جَسـدُهُ الغَـضُّ يَحمـلُ أَعباءَ الحَياةِ، بِحلوِهَـا وَ مُرِّهَـا، وَرِعًـا، تَقِيًّا، مُتَعَبِّدًا.
في صَبَــاحِ يَومِ جُمْعَةٍ.. اِسْتَيْقَظَ مُبَكِّراً مَعَ بِدايَةِ الفَجْرِ عَلـىٰ نِداءِ السَّماءِ. هَرولَ معَ رَفيقِهِ إلـىٰ المَسجدِ..
وَ بَينَمَا هُمْ في السَّجدَةِ الثَّانيةِ..
خَرَّ عَليهِمِ السَّقفِ، وَ اشتَعلتْ نيرانُ الجَّحيمِ في لَحظَةٍ فارِقَةٍ، اختَلطَتْ
فيهَا الأَجسادُ، وَ انْدَلقَتِ البطُونُ ثُمَّ تَناثرَتْ أشلاءُهَـا في كُلِّ اتِّجاهٍ.
شََظايَا تَطايرَتْ، حَصدتْ عَشراتِ الأَنفِسِ البَريئَةِ، وَ تَركَتْ بَصماتِ حرُوقٍ وَ جِرُوحٍ وَ بَترِ أعضاءٍ كَثيرَةٍ.
نَجَـا الزَّينُ بِِخَــارطَةِ جَسدٍ مُمزَّقَةٍ،
وَ ثِيابٍ مُغبَرَّةٍ، تَفُوحُ مِنهَـــا رَائحَةُ البَارُودِ وَ الدِّمــاءِ الزَّكيَّــةِ، أصابتْ أطرافَهَـــا النِّيرانُ وَ كادَتْ تَشْــوي جَسَدَهُ..
- حَسبِيَ اللهُ عَليهِم..
مَاذَا حَلَّ بِكَ يَـا وَلدي؟
أَجابَهَـا بِهدُوءٍ، رَابِطَ الجَّأْشَ:
- مَامَا.. كَفَّاي مَا زَالَتَــا سـالِـمتينِ هُناكَ.. في مَوضِعِ سجُودِهِما!
تَقَمَّصَ دَورَ الوَاعِظِ العارِفِ، وَ أمُّهُ وَقَفَتْ مَذْعُورَةً، فَاغِرَةً فَمِهَــا، تَصْغي بِفَخرٍ لِهٰذا المِغوارِ:
- نَحنُ نُولِدُ رِجالاً، لَنَــا معَ المَوتِ جَولاتٌ، وَ عِناقُ طَويلٌ، مَا عَادَ يُخيفُنَـا، وَ لا مَركباتُهُم الحَديديَّةُ تُرهِبُنَــا، حَتَّىٰ مُفَرقعاتِهِم صارَتْ تُطرِبُ أسماعَنَــا.
بَلْ أَكثرُ مِنْ ذٰلكَ..
لمْ تُشغِلْ الأطفَالَ عَنْ ألعابِهِم، باتَتْ جُزءًا مِنهَا، وَ لَحنًا شَجيًّا مِنْ أناشيدِ البَراءَةِ.
مَرةً أُخرَىٰ.. جَثَمَ عَلـىٰ صَدرِهَــا كابُوسُ النُّزُوحِ، بَحثًا عَنْ مَكانٍ آمنٍ يَأْويهَـا، يُريحُ بَالَهَا بُضعَةَ أيَّامٍ، وَ لَعلَّ السَّماءَ تُبارِكُ لَهَــا وُلادَةً مُؤجَّلَةً، كَالنَّاقَةِ العَشْرَاءِ، قَريبَةِ الوَضْعِ.
حَينَ غَادرَتْ مَنزِلَهَا مُكرَهَةً..
إتًّخذَتْ عَصًا، لِلتَوَكُّؤ عَليهَـا، مِنْ أَغصانِ شَجرةِ زَيتُونٍ، زَرعَهَــا أبُو الزَّينِ قَبلَ رِحلتِهِ الأَبديَّةِ، وَ عَلَّقَتْ عَلـىٰ صَدرِهَا مِفتاحَ المَنزلِ، عَسَىٰ أنْ يَأتي يَومَ تَعُودُ فيهِ إلـىٰ الدِّيارِ ..
مُعاناةٌ مَريرَةٌ تَقصمُ ظَهرَ البَعيرِ، تَحمَّلتْهَـا في الطَّريقِ إلـىٰ المَجهُولِ،
وَ ما زَادَ الطِّينَ بَلَّةً، أنبَاءٌ لا تَسرُّ عَمَّا
تُخلِّفُهُ رُحَىٰ الحَربِ، وَ خِذلانِ مَنْ يُعَوَّلُ عِليهِ في المُلمَّاتِ.
(- كَيفَ تُؤمِّنُ أَرمَلَةٌ حامِلٌ بِشهرِهَا العَاشرِ غِذاءَ وَلدِهَـا وَ دَواءَ يُسْعِفُهَا مِنْ مَرضِهَا المُستَفحِلِ؟
- لا أَحَدَ يَدرِي!)
تَناهَىٰ إلـىٰ سَماعِهَا خَبرٌ مَفادُهُ:
( مُساعدَاتٌ إنسانيَّةٌ منْ مَنظماتٍ
دُوليةٍ، تُسقطُهَا طائراتٌ منَ الجَّو.)
عَمَّ الفَرحُ.. وَ اشرأبَّتْ الأعناقَ، ارتَفعَتِ الأصواتُ بِالتَّهليلِ، وَ مَا هيَ
إلَّا سُويعَاتٌ.. وَ إٕذا طائراتٌ تُلْقي عَلـىٰ النَّازحينَ بِشكلٍَِ عشوائيٍّ زَخَّاتٍ ضَنِينَةٍ منْ مَعوناتٍ غِذائيَّــةٍ، تَقتِلُ نازحًــا
وَ تُطعِمُ آخرَ...
وَصلَا " زَهراءُ وَ الزَّينُ " إلَـىٰ الجُّنوبِ، يُرَافقهُمَا كيسٌ مِنَ الغِذاءِ مُخضَّبًا بِالدِّماءِ، لٰكنَّهُ كَبيرٌ مُمتَلِئٌ بِالحَليبِ وَ الحبُوبِ..
نَصبَتْ خَيمتَهَا، رَبَطتْهَا بِحبالٍ قَويَّةٍ
وَ مَتينةٍ، رَتَّبتْ أغراضَهَــا.
عَلَّقَتْ بِسقفِ الخَيمَةِ فِستَانًا زَاهيًا،
وَرديَّ اللُّونِ، حاكتْهُ بيديهَا لِوَليدِهَا حِينَ مَوعدِ قِدومِهِ..
- اُنْظُرْ لِلأعلَـىٰ.. لَنْ يَسقطَ عَلينَـا شَيءٌ، وَ الأرضُ لنْ تَبتلِعْنَــا!
تَكلَّمَتْ لِوحدِهَا، لَمْ يُنصِتْ لَهَا أَحدٌ، لا الزَّينُ.. وَ لا الجَّنينُ؛ إنَّهُما فِي سُبَاتِ نَومٍ عَمِيقٍ.
في تِلكَ اللَّيلةِ العَبُوسِ، هَبَّتِ الرِّياحُ وَ أمطرَتِ السَّماءُ، لٰكِنِ الخَيمَةُ بَقيتْ صامدَةً مثلَ ساكِنيهَا.
وَ أُمُّ الزَّينِ.. وَرِثَتِ المَجْدَ كابِرًا عنْ
كابِرٍ، فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إلـىٰ عَمُودِ الخَيمَةِ فَاحتَضنَتْ إبْنَهَا بِيدٍ،
وَ الأُخرَىٰ تَشبَّثَتْ بِالعَمُودَ!
اِستجمَعتْ قُواهَا..
حازَتِ المَاءَ عنْ سَطحِ الخَيمةِ،
عَبَّـأَتْهُ في قَنانٍ بلاستيكيَّةٍ.. وَ هيَ
تُرطِّبُ لِسانَهَا بِالحمدِ وَ الشُّكرِ عَلـىٰ نِعمَةٍ وَصَلتْ إليهَا، دُونَ نَصَبٍ.
خَرجتْ حَولَ الخَيمةِ، قَوَّستْ ظَهرَهَا، وَ طَفَقَتْ تَبحثُ عَنْ وَقُودٍ، منْ عيدانٍ أَو قِطَعِ خَشبٍ مُتناثرَةٍ، لِتُوقِدَ نارًا وَ تُدفِّئَ أَطرافَ الزَّينِ المَبتُورَةَ..
اِبتعدَتْ عَلـىٰ رِسْلِهَـا، وَ لمْ تُدرِكْ إنَّهَا في مَتاهَةٍ، حَالكَةِ السَّوادِ، دَونَ أيَّةِ عَلامَاتٍ أَو بَصيصِ ضَوءٍ يَدلُّهَـا لَو ضَلَّتْ طَريقِهَــا..
أَعادَتِ السَّماءُ زَمْجرَتَهَا، وَ رَمَتْ
حُمَمًا لا تُشبِهُ مَا رَمتْهُ قَبلَ قَليلٍ.
هَمَّتْ أَنْ تسْتَسلِمَ لَهَا، لَوْ مَا صُورَةُ إبنِهَا بَرقَتْ في ذِهنِهَا في لَحظةٍ حاسِمَةٍ!
بَعــدَ لَأيٍ.. وَجدَتْهُ مضَرَّجًـا بِدمِّـهِ، مُرْتَقيًا سُلَّمًا، سَبقَهُ إليهِ.. أَبُوهُ!
دَنَا مِنهَا الطَّلْقُ..
فَزِعَتْ..
صَرَخَتْ تَستَغيثُ..
وَ لمْ يُرَدِّدِ الصَّدَىٰ أيَّ صَوتٍ، وَ لمْ تَرَ النُّورَ عَيْنَيْهَـــا!
لَاحِقًــــــا..
وَصَلتْ فُرَقُ الأَغاثَةِ في آخرَ لَحظَةٍ.
لَمْ يَزلْ قَلبُ زَهراءَ يَنبُضُ، حَاولَتْ أنْ تُشيرَ وَ تَدُلَّ المُسعفينَ، بِإشاراتٍ خَرسَاءَ، وَ صِرَاخُ وَليدِهَا يَصُمُّ الآذَانَ.
تَعَلَّقَتْ عيُونُهُم بِالفِستانِ الوَرديِّ
وَ فَشلُوا في فِهْمِ جُلَّ كَلامِهَا، سِوَىٰ كلمَةٍ واحِدَةٍ تَلَقَّفُوهَا بِصعُوبَةٍ:
- " عِــزَّة "!
أَسلَمَتْ نَفْسَهَا لِبارِئِهَا عَلـىٰ أَلحَانٍ رَتَّلَهَــا المُسعِفُونَ بِخِشُوعٍ..
{مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا}!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق